لا زالت تداعيات زيارة موفد الرئيس الأميركي إلى لبنان آموس هوكستين تلقي بثقلها على الوضع الميداني في الجنوب اللبناني. تؤشر عدم عودة هوكستين إلى لبنان بعد زيارة تل أبيب إلى توجّه أميركي لإفساح المجال للميدان لفرض معطياته بعد فشل الدبلوماسية في فرض رؤيتها، فيما يضفي غياب وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن وسواه من المسؤولين الأميركيين ــــــ الذين درجوا على زيارة المنطقة بصورة متكررة للدفع بالمفاوضات بين حركة حماس وإسرائيل للتوصل إلى تسوية للحرب ــــــــ ما يكفي من الضبابية على الموقف برمّته من غزة الى الجنوب اللبناني. يفضي انحسار الحضور الأميركي الى المنطقة وغياب الإهتمام الغربي بلبنان الى استنتاج منطقي بأن الدينامية الأميركية التي قدّمت حراكاً ملحوظاً على امتداد الأشهر السابقة قد دخلت مرحلة الموت السريري.
في هذا السياق الذي يفرضه الغياب الأميركي يأتي إعلان إسرائيل إنهاء عمليتها العسكرية البرية التي تشنها على مدينة رفح جنوبي قطاع غزة خلال 10 أيام، والإنتقال إلى المرحلة الثالثة من الحرب، فما هي دلالات هذه المرحلة وما هي المخاطر التي يمكن أن تحملها؟
يبدو قرار الإنتقال الى المرحلة الجديدة إجراءاً إسرائيلياً بامتياز قد تمّ اتّخاذه وفقاً لتوقيت إسرائيلي وبشكل منفصل عن أي مسار تفاوضي في غياب أي موقف من حركة حماس يحاكي التعامل مع المرحلة المقبلة. لقد اختصرت القناة 13 الإسرائيلية توصيف هذه المرحلة ـــــــ نقلاً عن مسؤول إسرائيلي ــــــــــ «إن النشاط سيستمر بغارات وضربات جوية، فالحرب لن تنتهي، سنتحرك حيثما توجد معلومات استخباراتية عن نشاط لحركة حماس». بدوره أوضح الجيش الإسرائيلي أن المرحلة الثالثة ستستمر لعدة أشهر يواصل خلالها الجيش استخدام أشكال مختلفة من الجهود العملياتية والإستخباراتية ويحتفظ خلالها بتواجد عسكري في ممر نتساريم وفي منطقة فيلادلفيا ورفح، مع التركيز على تصفية كبار المسؤولين وتدمير البنيّة التحتية بما يمنع حماس من إعادة بناء قدراتها. أما رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو فقد وصف المرحلة المقبلة بــ «التحوّل إلى الغارات الهادفة والنشاط الجوي ينتقل بعدها جزء من القوات الى الجبهة الشمالية».
يترافق الإعلان الإسرائيلي عن الإنتقال الى المرحلة الثالثة مع تأكيد مصادر إعلامية على مستوى عالٍ من الصدقية إنسحاب الرئيس جو بايدن من السباق الرئاسي، وأن البيت الأبيض يتريث فقط لإيجاد الطريقة والتوقيت المناسبين للإعلان عن ذلك، وقد عزت تلك المصادر أسباب اتّخاذ هذا القرار إلى عدم قدرة بايدن على التعافي بعد المناظرة الأخيرة والشح المتصاعد الذي أصاب حملة التبرعات بعد المناظرة. وقد يكون في الإنسحاب المرتقب للرئيس بايدن ما يبرر غياب الحضور الأميركي عن المنطقة، وما يبرر حال الترهل المتزايد الذي تعانيه الإدارة الأميركية والعجز عن اتّخاذ مواقف واضحة حيال أزمات المنطقة.
تكمن خطورة الغياب الأميركي في حرية العمل التي سيتيحها لرئيس الوزراء الإسرائيلي والتي ستمكّنه من الذهاب بعيداً في قراراته العدوانية في غزة أو في نقل المعركة الى الجنوب اللبناني. يدرك نتنياهو أن ثوابت واشنطن تحول دون التخلي عن تقديم الدعم اللازم لتل أبيب في أي حرب تخوضها بمعزل عن ما تعانيه إدارة الرئيس الأميركي التي تبدو ذاهبة الى ما يشبه التقاعد المبكر مع خروج الرئيس بايدن من السباق الرئاسي، وهذا ما قد يرفع مستوى المخاطر إلى درجة مقلقة خلال المرحلة المقبلة ويتيح المجال لإحتمالات غير متوقعة في ظلّ غياب الناظم الأميركي ويجنح بالمنطقة الى مزيد من الفوضى.
يسبق التاريخ المعلن لبدء المرحلة الثالثة توجه نتنياهو إلى واشنطن لإلقاء خطابه أمام الكونغرس في 24 تموز/ يوليو الحالي مما سيقدم له منصة لمخاطبة صانعي القرار الأميركي من موقع الإلتزام باقتراح بايدن، ومطالبتهم بتقديم الدعم العسكري لإسرائيل لتحرير الرهائن من قبضة حماس ومواجهة التهديدات الإيرانية التي يمثلها حزب الله على حدوده الشمالية. سيستند نتنياهو في تبرير حربه على لبنان أمام الكونغرس إلى ما أفضت إليه زيارة هوكستين الأخيرة الى لبنان والتي لم تلقَ أي تجاوب من قبل حزب الله المصرّ على ربط لبنان بالحرب الإسرائيلية على غـزة بالرغم من التحذيرات التي نقلها لرئيس المجلس النيابي نبيه بري.
وفيما يستثمر نتنياهو في الوهن الذي تعانيه إدارة بايدن بتحويل الكونغرس إلى موقع داعم لعدوانيته المستمرة بما يتجاوز نتائج الإستحقاق الرئاسي الأميركي، ينتظر لبنان ما يمكن أن يقدّمه اللقاء الذي سيجمع الموفد الأميركي آموس هوكستين الذي يمضي إجازة عائلية في أوروبا بالموفد الفرنسي جان إيف لودريان خلال الأسبوع المقبل في باريس. وما بين إصغاء الكونغرس الأميركي لأجندة نتنياهو وترقب ما يمكن أن يتيحه الوقت المستقطع من إجازة هوكستين للقاء لودريان فارق كبير وقلق أكبر سيتحمّل لبنان تداعياته.
* مدير المنتدى الإقليمي للدراسات والإستشارات