بالإضافة إلى المهمّة التي يخوضها الموفد الرئاسي الأميركي عاموس هوكشتاين في بيروت، واللقاء الذي جمعه برئيسي مجلس النواب نبيه بري والحكومة نجيب ميقاتي وقائد الجيش العماد جوزف عون، باشر ما يمكن اعتباره جولة “علاقات عامة” على قيادات سياسية وحزبية، لشرح الموقف الأميركي، مخافة أن يكون البعض بعيداً من سير المفاوضات الجدّية. وهو ما اعتبره البعض تعويضاً عن احتكارها في شكلها ومضمونها. وعليه ما الذي تعنيه هذه الجولة؟
قبل أن يزور بيروت التقى هوكشتاين في السرّ والعلن عدداً من القيادات السياسية والحزبية اللبنانية في واشنطن وأمكنة أخرى، عدا عن إحياء اتصالاته ببعض الشخصيات اللبنانية الصديقة من خلفيات قانونية ودستورية وسياسية، التي كانت على تواصل معه، سواء مباشرة وهي عملية نادرة، او عبر أعضاء من فريقه قبل تفكيك الفريق. وهي عملية لم تفاجئ أحداً، وخصوصاً انّها جاءت في مرحلة قيل إنّه اعتزل المهمّة لفترة، ليتفرّغ لعقوده الخاصة قبل تجديد مهمّته ليس من جانب الرئيس الحالي جو بايدن فحسب، إنما من جانب الرئيس المنتخب دونالد ترامب، بعد لقاء الخميس الماضي بينهما. وهو ما عزّز الاعتقاد بأنّ هناك بعض القواسم المشتركة التي جمعتهما، بما توحي به الإدارة الاميركية «العميقة» في خطوطها العريضة مع هامش حركة يحتفظ به اي رئيس وفقاً لطبيعته وأسلوب العمل الذي يرغب به.
وعليه، تعترف مراجع سياسية وديبلوماسية عليمة، انّ ما ظهر لديها يؤكّد انّ ما ترسمه هذه الادارة العميقة لا يتجاهله أحد من رؤساء الولايات المتحدة الاميركية، قياساً على حجم التجارب السابقة مهما اختلفت توجّهاتهم ما بين كونهم من «الجمهوريين» او «الديموقراطيين»، فهي تبقى الجهة الفاعلة التي ترسم خريطة الطريق الضامنة للمصالح الاميركية العليا المرسومة لعقود من الزمن، بما يضمن أعلى المراتب من الأمن القومي وموقع الدولة ومصالحها في أرجاء العالم. ولذلك لا يمكن مقاربة الخلفيات التي تحرّك هوكشتاين في لبنان والمنطقة من خارج ما تقول به هذه القواعد التي قد تختلف او تتلاقى في بعض المحطات المرحلية، مع مصالح اي دولة نافذة موضوعة على لائحة أصدقائها في العالم الذين تتقدّمهم الدولة العبرية، بما يعني منطقة الشرق الأوسط وما يجري فيها من تحولات.
وإن أسقطت هذه النظرية العامة على ما يرافق زيارة هوكشتاين لبيروت، فإنّ المراجع السياسية والديبلوماسية عينها رصدت مجموعة من المؤشرات بما حملته من مفاجآت لا يمكن تجاهلها، ومنها تلك التي رافقت زيارته، ولا سيما منها التي واكبت وصوله إلى مطار بيروت «مقدّماً» أمتعته للسكانر تمهيداً لخضوع فريقه للتفتيش رغم الحصانة الديبلوماسية والإجراءات التقليدية التي تواكب وصول موفدين بهذا الحجم، ولا سيما منهم الأميركيون، لتقديم أولى المشاهد التي ترفع الحَرَج عن الأجهزة المكلفة أمن المطار، وخصوصاً في هذه المرحلة بالذات التي أُعلن فيها تحييده عن مسلسل العمليات العسكرية المتبادلة بين إسرائيل و»حزب الله». ومعها تلك التي رافقت مغادرته عندما قَصَد مقهى «ستار باكس» في فردان الذي يقاطعه أنصار فلسطين بهدف الاستراحة وما تحمله من رسائل.
وإلى هذه المفاجأة التي تسببت بإطلاق مجموعة من الملاحظات، سواء الهزلية منها بهدف تسخيف الخطوة عند ربطها بالأشكال مع وفد مستشار المرشد الأعلى للإمام الخامنئي علي لاريجاني من جهة، والجدّية المرتبطة بتطبيق القوانين على حدّ سواء، فقد تميزت الزيارة التي أُخضعت قبل حصولها لموجة من التشكيك بأهميتها وجدواها عدا عن موعدها. فقد مدّد هوكشتاين زيارته ووسّع من جدول لقاءاته، فأمضى سهرة «مميزة» في معراب مع رئيس حزب «القوات اللبنانية» سمير جعجع وعقيلته قبل زيارته أمس للرابية للقاء الرئيس السابق للجمهورية العماد ميشال عون لاستحالة عقد اي لقاء مع صهره رئيس «التيار الوطني الحر» المهندس جبران باسيل، الذي ما زال يخضع للعقوبات الاميركية، عدا عن لقائه مع الرئيس السابق للحزب «التقدمي الاستراكي» واللقاءات الأخرى.
وفي هذه الأجواء، وعلى خلفية البحث عن اسباب تمديد الزيارة لبيروت، عبّرت هذه المراجع في بداية الأمر عن خشيتها من احتمال إلغاء زيارته لتل ابيب إن بقي الموقف الإسرائيلي متشدّداً ومتردّداً في حسم موقفه من الاتفاق مع لبنان، بعدما تبلّغ بأدق تفاصيله، قبل ان تتراجع هذه المخاوف ليتبين انّه كان ينتظر اجوبة مبدئية من تل أبيب قبل المراجعة الاخيرة التي أجراها مع بري. ذلك انّه وإن كانت النية متوافرة لدى نتنياهو إضافة مزيد من المطالب التي قد تنسف الموافقة اللبنانية المشروطة بتعديلات، تكون الزيارة باطلة مسبقاً. وهو أمر اعتاد عليه المفاوضون الفلسطينيون وأعضاء اللجان الوزارية والمخابراتية الدولية والعربية، الذين خبروا الأسلوب الاسرائيلي عند مناقشتهم مسلسل اتفاقات وقف النار وتبادل الاسرى في غزة.
وما زاد من الاقتناع العابر للمتخوفين وما تسبب به من تشويش على مصير مهمّة هوكشتاين، انّ موقفاً أميركياً واضحاً ونهائياً لم يصدر بالإعلان عن الموافقة على الطروحات اللبنانية والتعديلات المقترحة على بعض البنود، ولا سيما منها المتعلقة بلجنة الرقابة على تطبيق القرار بمختلف مندرجاته والمراحل التنفيذية، لأنّها قضايا ما زالت قيد الدرس. ذلك انّ ما كان منتظراً من موقف واضح ونهائي يلمّح إلى اهمية زيارته لتل ابيب لإتمام المهمّة التي كًلّف بها لم يصدر. وهو امر ارتبط بالبيان الغامض لوزارة الخارجية الأميركية عندما تحدثت عن «استمرار المحادثات مع الأطراف المعنية لتحقيق وقف لإطلاق النار في لبنان، بما يضمن عودة السكان على جانبي الحدود إلى منازلهم». مشيرة الى «أنّ هناك تقدّمًا ملحوظًا في المحادثات»، معطوفة على التحذير من «عدم إمكانية التنبؤ بموعد التوصل إلى اتفاق نهائي»، وهي عبارات تنبئ بإعطاء فرصة اضافية لتل أبيب للمضي في ضغوطها العسكرية.
وطالما انّ الجانب الاميركي لم يحسم بإيجابية جهود هوكشتاين، تعززت المخاوف من نتائجها موقتاً، في انتظار ما يجنيه من تل ابيب، وخصوصاً إن توقفت امام بعض المواقف الاسرائيلية المتشدّدة ومنها التي صدرت عن وزير الشتات الإسرائيلي عميحاي شيكل، الذي فاض تشدّداً عن رفاقه، ولا سيما منهم وزير الطاقة، بعدما كرّر مطلبه بـ «أنّ اي اتفاق لإنهاء الحرب على لبنان يجب أن يتضمن إلغاء اتفاق ترسيم الحدود البحرية» على رغم من المحاذير الدولية بنقض هذا التفاهم. وتقدّم على زملاء له بمطالبته بـ«طرد قوات «اليونيفيل» من جنوب لبنان، بعدما ثبت أنّها «فشلت في مهمتها». كان ذلك قبل ان ينادي وزير المال بتسلئيل سموتريش بـ«إلغاء التفاهمات الاخيرة التي لا تساوي قيمة الورق والحبر المستخدم فيها».
وإلى هذه المعطيات كافة، ظهر انّ جولة هوكشتاين من خارج سياق مهمّته التفاوضية المحصورة بالرئيس نبيه بري و«حزب الله»، كانت مجرد علاقات عامة، لا يمكن تجاهل الرفض الذي بدأ يطلّ تجاه ما سُمّي بـ«احتكارها» طالما انّها تتصل بمصير ومستقبل كل لبنان واللبنانيين، واستباقاً لانتخاب رئيس للجمهورية سيكون عليه الالتزام بما كرّسته الاتفاقات الجديدة. وكل ذلك يجري على وقع المطالبة بجلسة نيابية عامة لمناقشة مسودة الاتفاق، فلا تقف نتائجها عند مصير «المقاومة» و«سلاحها». وهي قضايا وسمت جولة هوكشتاين على بعض المغيبين عن المفاوضات لا أكثر ولا أقل، طالما انّ مواقفهم لن تقدّم ولن تؤخّر في ما يجري من مفاوضات.