مظلة التحالف الجديد تعتريها ثقوب وفجوات وتمزقات جمة. وكلما تقدم خطوة برزت شدة الترابط بين أزمات المنطقة، وتبلورت حدة الصراع السياسي والمذهبي. وتعاظم دور القوى المحلية على حساب الأنظمة والحكومات. وتعمق الخلاف بين الدول الإقليمية على الأدوار في مستقبل النظام في الشرق الأوسط، والتضارب في المصالح والسياسات… وكلها عوامل لا تساعد التحالف الواسع في حربه على الإرهاب. مسرح العمليات سيفاقم صراعات ويفرز أخرى أشد قساوة وتهديداً. كما أن حصر هذه الحرب بميدان أو ميدانين، في العراق وسورية، لن يفي بتحقيق الهدف المنشود. يكفي النظر إلى الخريطة العامة، من الشمال الأفريقي إلى ما وراء حدود بلاد الرافدين وإيران، مروراً بشبه الجزيرة العربية وبلاد الشام كلها. ما يجري في طول هذه المساحة وعرضها لا يقل قساوة وتهديداً للسلم العالمي مما يجري على أيدي «داعش» و «النصرة» وغيرهما من الحركات الارهابية. وطلائع الحركات المبايعة لـ «الخليفة أبو بكر» تتزايد، من المحيط إلى الخليج.
الثقوب والتمزقات مردها إذاً إلى التشابك بين الملفات والقضايا والمصالح. ولا مجال للمقارنة بين الظروف والأوضاع الحالية وتلك التي رافقت بناء الرئيس جورج بوش الأب التحالف الدولي – العربي مطلع تسعينات القرن الماضي لتحرير الكويت. أثبتت أحداث أوكرانيا وقبلها جورجيا، والعراق وسورية أيضاً، وتطورات وأزمات كثيرة أخرى، أن ليس في مقدور الولايات المتحدة ولا أي دولة عظمى أخرى أن تعيد صوغ نظام عالمي بمفردها. حتى لو اجتمعت إرادات هذه الدول التقليدية الكبرى لن يكون بمقدورها تجاهل حضور قوى إقليمية كبيرة صاعدة، بل لا يمكنها تجاهل دور قوى ومكونات دينية وعرقية وعشائرية وجهوية على الأرض لا سلطة لأحد عليها. ما جرى في العراق وما يجري في ليبيا واليمن وشبه جزيرة سيناء وشمال لبنان وشرقه وأماكن أخرى خير شواهد، وإن اختلفت النظرة إلى هذه القوى باختلاف عقائدها ووسائل الصراع التي تعتمدها وتتوسلها لتحقيق غاياتها.
قد لا تكون هذه القضايا البعيدة من مسرح «داعش» هماً داهماً وتحدياً فرض خطره على رأس أولويات دولية وإقليمية. لكنها قضايا لا تنفصل عن الصراع الواسع في الإقليم وأبعد منه، بل تشكل كلها عالماً واحداً «معولماً» لا ينفصل عن سياسات الدول المنضوية في التحالف أو تلك التي لم يشملها. ولا ينفصل عن أمن هذه الدول. فأن تتوسل هذه المنظومة الجديدة ومناهضوها قوى شعبية ومجموعات طائفية أو إثنية سلاحاً في مواجهة الإرهاب قد تكون له عواقب خطيرة على مستقبل الدول الوطنية. فليس من يضمن ألا تنزلق المجتمعات في هذه الدول حاضراً أو مستقبلاً إلى مزيد من التمزق والتفتت، في ظل غياب جيوش أو مؤسسات وطنية عسكرية وأمنية قادرة على ضبط إيقاع الصراعات المحلية، وملء الفراغ الذي سيخلفه ضرب «داعش» وأمثال هذا التنظيم. وفي ظل انعدام التوافق السياسي الإقليمي والدولي.
تركيا مثلاً رفضت التوقيع على بيان قمة جدة الأخيرة بين وزير الخارجية الأميركي ووزراء خارجية عشر دول عربية. وعبر المسؤولون فيها عن عدم رغبتهم في الانخراط في هذه الحرب. هذا الغياب لأنقرة أشد وقعاً من تغييب طهران أو موسكو وحتى دمشق ونظامها. الإيرانيون وحلفاؤهم لا يضيرهم أن يتولى غيرهم أمر «داعش». أياً كانت النتائج في العراق لن يخسروا الكثير. ميليشياتهم ستكون جاهزة للتنافس على ملء الفراغ. والقرار الحكومي في بغداد، السياسي والأمني والعسكري، لم يخرج من أيديهم. حلفاؤهم في سدة الحكم من الرئاسة إلى الوزارة والمؤسسات. وإذا كان لا بد من إشراك أهل السنّة وإرضائهم، بما يعزز حضور بعض القوى السنّية، خصوصاً أهل الخليج، فإن لهذا الإشراك شروطاً وحدوداً. يرسم هذه الحدود الحوثيون الذين يتقدمون خطوة خطوة نحو إكمال السيطرة على صنعاء وشمال اليمن وغربه بالتوازي مع انطلاق الحملة العسكرية في العراق وارتباكها في الجبهة السورية. ومثل هذا التوازي يرافق تحرك الجهاديين عبر الحدود اللبنانية – السورية. إشعال شرارة الحــريق في لبنان أو في بعض مناطقه شرقاً أو شمالاً بدأت. وقد تدفع النار هذا البلد المنضوي في التحالف إلى إحياء «معاهدة الأخوة والتعاون»، أي التعامل مع نظام الرئيس بشار الأسد في الحملة على «الدولة الإسلامية» وحلفائها. وهذا ما يسعى إليه علناً أطراف سياسيون كثر في بيروت… وإلا كان البديل العودة إلى الحرب الأهلية من أبوابها الواسعة.
إيران تفيد من الحرب على «داعش». وقد يفيد منها أهل الخليج الذين يسعون إلى استعادة بعض ما خسروا في العراق، ويأملون بتغيير في سورية لم يكفوا عن المطالبة به. ولكن، أين مصلحة تركيا في أن تكون رأس حربة في هذه الحرب لأنها الأكثر قدرة على التأثير في الميدان؟ يعرف العالم أنها البوابة التي عبر منها الجهاديون بكل جنسياتهم وعتادهم. ويمكنها بإقفال بواباتها ووقف التجارة مع «الدولة الإسلامية»، أن تضيق الخناق على التنظيم الإرهابي. لم يكن مرد عزوفها عن الانخراط في التحالف إلى حرصها على سلامة رهائنها في الموصل فقط. هذا سبب واحد بين أسباب. هناك حسابات كثيرة أخرى. فلماذا تساهم في حرب يجني الآخرون حصاد نتائجها؟ بل إن عرضها لأسباب قيام «داعش» فيه شيء من الدعوة إلى إعادة النظر في سياسات أهل التحالف لمراعاة هذه الأسباب ومعالجتها. وعلى رأسها انصاف أهل السنّة في العراق، والقضاء على نظام الرئيس بشار الأسد كما صرحت أنقرة علناً. هذا من دون الحديث عن حملتها على النظام المصري بسبب حملته على «إخوانه»، وعن مخاوفها على «إخوان» ليبيا مع تصاعد الدعوات إلى تدخل دولي أو إقليمي في هذا البلد. ومخاوفها على «إخوان» اليمن الواقعين بين سندان المبادرة الخليجية ومطرقة الحوثيين.
أبعد من ذلك تنظر أنقرة إلى خطة التحالف وأهدافه نظرة مختلفة. لا يمكن أن تركن إلى سياسة تسليح مفتوحة للأكراد، سواء في العراق أو سورية، وهي لا تزال تفاوض عبدالله أوجلان على نزع سلاح حزب العمال الكردستاني. أليس ملفتاً أن تكون إيران أول من بادر إلى مد إقليم كردستان بالسلاح وليس تركيا التي كانت تعيش شهر عسل لم ينته مع أربيل؟ ولا يمكنها أيضاً أن تركن إلى تسليح للمعارضة السورية يستثني فصائل «الإخوان» ويشمل أكراد سورية وجلهم من أنصار أوجلان، وقد اعترضت علناً على «حيادهم» وقيام إدارة ذاتية لرعاية شؤون مناطقهم، وهي تخشى أن يؤدي تسليحهم إلى تجديد ترسانة حزب العمال. ولعله يصح السؤال هن هل كان من شروط الصفقة لإطلاق رعاياها الرهائن في الموصل غض الطرف عن اجتياح «داعش» القرى الكردية وتهديد إحدى أكبر مدنهم، عين عرب أو كوباني المتاخمة للحدود التركية… ام ان التنظيم انتهز الفرصة وواكب خروج الرهائن بالهجوم على كرد سورية؟
ولا تقف الأسئلة عند هذا الحد. لماذا ستساهم تركيا في الحرب على «داعش» في العراق إذا كان الحصاد سيوزع بين إيران وخصومها العرب؟ ولماذا تساهم في دعم الفصائل المعتدلة في سورية، ما دامت أميركا تشدد على أن الحملة في هذه الساحة لا تشمل إطاحة النظام؟ تكون كمن يساهم في التضييق على جماعة «الإخوان» وهم مكون رئيسي في «الائتلاف الوطني» المعارض، وتصنفهم مصر والسعودية والإمارات، الأعضاء في التحالف، في لائحة الإرهاب؟ إيران المغيبة عن التحالف حاضرة في قلب المشهد عبر الميليشيات الحليفة من لبنان إلى العراق، فضلاً عن نظام الأسد. ومستعدة لجني الثمار، أو لأوان الصفقة مسلحة بهذه الأوراق والورقة الحوثية للمقايضة بين مثلث محكم، العراق وسورية واليمن. ومسلحة بورقة الملف النووي الذي إذا تعذرت تسويته سيشرع الباب واسعاً أمام الرياح العاتية لهذه الملفات. لماذا يُطلب من تركيا أن تتخلى عن ورقة «الإخوان» الذين يجاهرون برفض الحرب المقبلة على «الدولة الإسلامية»، رفضاً لما يسمونه «حرباً أميركية» لتمزيق المنطقة الإسلامية وتفتيتها؟ هذا الشعار تشاركهم فيه بعض الميليشيات والقوى الشيعية التي نادت علناً بمقاومة عودة الاحتلال الأميركي للعراق… بدعم من طهران!
هذا غيض من فيض الثقوب والفجوات في مظلة التحالف. ماذا لو تعالت أصوات الذين خابت آمالهم بـ «الربيع العربي» ومآلاته؟ وماذا عن «الاخوان» الذين انحازوا الى العنف في مصر وليبيا وغيرهما بعد فشل «تغولهم»؟ وماذا عن أولئك المتضررين من الحرب، أو الذين لم يستثمروا جيداً في صعود «داعش»، أو لم يكن أمامهم الوقت الكافي لاستغلال ما أحدثه التنظيم من اهتزاز للتمدد الإيراني… ورفعوا شعارات القوى الإسلامية المتشددة المنادية بمواجهة «الحرب الأميركية على الإسلام والمسلمين»؟ ستكون هذه الشعارات بمثابة دعوات إلى مد «دولة أبو بكر» بمزيد من المتطوعين والمقاتلين من شارع فعل الصراع المذهبي في مفاصله فعله. وفي النهاية ماذا عن عشرات آلاف «المجاهدين الارهابيين» في العراق وسورية ومصيرهم؟ هل من مهمات التحالف وأدواته على الأرض القضاء عليهم قصفاً وغارات وقتلاً؟ ليسوا نظاماً يتهاوى ويسقط مع سقوط رأسه. سينزعون ثياب القتال، كما فعلت فرق عسكرية عندما دهموها في الموصل والمحفاظات العراقية السنّية. وينخرطون بين الناس قنابل نائمة وموقوتة. ألم يبعث أبو بكر البغدادي «دولة الزرقاوي» بعد حوالى سبع سنوات من القضاء عليها بأيدي الأميركيين والصحوات؟ دولة تأفل وتعود. لم يجافِ الصواب أولئك الذين توقعوا أن تطول الحرب عقداً وأكثر.