مواسم الأعياد خطفت الأضواء من الاستحقاقات السياسية
جمهورية تبحث عن رئيس يقودها الى التنظيم
وسياسيون تتقاذفهم عواصف الخيارات الصعبة خطفت الأعياد الذهبية من اللبنانيين المواسم السياسية، وكانت فرصاً لا تتكرر، في تاريخ لبنان السياسي. وهكذا طار الاستحقاق الرئاسي من الأجواء العاصفة فيها أقدار شتى، جعلت انتخابات رئاسة الجمهورية تتأجل الى العام الجديد، وربما الى فصول آتية على الطريق.
يوم الخميس الفائت، أي قبل عيد الميلاد المجيد، بيوم واحد، وقف الوزير السابق للداخلية والنائب الحالي عن قضاء الضنية – المنية في الطبقة السابعة من مكاتب النواب التي استحدثها الرئيس نبيه بري، قبل سنوات، بعد اتفاق الطائف والحيرة بادية على وجهه، لأنه عاد قبل ٢٤ ساعة من معراب بعد اجتماع طويل مع الدكتور سمير جعجع مرشح ١٤ آذار الى الرئاسة الأولى، عندما بادره نائب آخر: هل أخفق النائب الحكيم في الطب، باقناع رئيس حزب القوات بالحوار مع الرئيس سعد الحريري، للاتفاق على مرشح مقبول من ٨ و١٤ آذار لرئاسة الجمهورية؟
ضحك النائب الدكتور أحمد فتفت، وقال إن الحوار بين الحلفاء والأصدقاء، ليس نزوة عابرة، بل قدر محتوم، لأن جامعهم هو انقاذ لبنان.
وخاطب زملاءه الذين تحلقوا حوله، داعياً إياهم الى التروي والصبر، لأن لبنان بلد ديمقراطي وإن انتابته أزمات حادة أحياناً، وحواري مع الدكتور جعجع يتصف بظاهرة أساسية: الحوار هو الضامن لحل سياسي في لبنان.
سأله أحد النواب: هل نفى حكيم القوات بأنه يعتزم ترشيح العماد ميشال عون، بعدما خذله الرئيس سعد الحريري، بترشيح النائب سليمان فرنجيه لرئاسة الجمهورية؟
وردَّ فتفت بأن إرادة محلية وأخرى اقليمية وثالثة دولية، طرحت اسم النائب فرنجيه للرئاسة الأولى، بعد انقضاء قرابة عامين على شغور الرئاسة من فارسها، وهو أطلق اسمه، لكن زعيم تيار المستقبل لم يُطلق رسمياً ترشيحه، وهو فتح الباب للحوار مع حلفائه، والاسم له وزنه وصفاته وأبعاده، وهو معروض للمناقشة، ولم يصبح بعد ترشيحاً رسمياً، لأن الحوار أقوى من القرار.
طبعاً، تأجل الاستحقاق الرئاسي أو تأخر أو أرجئ الى حقبة لاحقة، لتصبح الطبخة الرئاسية الأولى في طور النضوج.
وقبل أن يغادر الحلقة التي تجمعت حوله، بادر النائب فتفت زملاءه: أنا شخصياً رحبت بطرح اسم النائب فرنجيه، لأننا، معاليه وأنا من شمالي لبنان، وقد عرفنا بعضنا في الصداقة حيناً والخصومة أحياناً، وكان كل منا، يحرص على المودة والاحترام، وعلى تقدير رأيه والرأي الآخر. هذا هو لبنان، ولن يصبح تنزانيا أو سوريا ، اذا ما شئتم.
وأردف فتفت: لسنا ضد الشقيقة سوريا، لكننا لم نكن نستسيغ الهيمنة السورية التي مارستها على لبنان، بعد احتلال صدام حسين للكويت، وحاربت الى جانب القوى العربية والدولية، التي أرغمت الرئيس العراقي الراحل على مغادرة الكويت، وقبضت ثمن ذلك اسناد مهمة تنفيذ اتفاق الطائف. وكلنا نذكر الجهود التي بذلها وزير الخارجية السعودي الأمير الراحل سعود الفيصل، عندما انتقل من الطائف الى دمشق، للموافقة على وثيقة الوفاق الوطني، ثم نفذت الاتفاق، كما يحلو لها وتريد، سياسياً وانتخابياً.
وعقب بعض النواب: لا حل في لبنان سياسياً الا بتنفيذ اتفاق الطائف. وقال آخرون إن العماد عون رفض الاتفاق، والنائب فرنجيه وافق عليه. الا ان بعضهم قال ان الجنرال قبل به، عندما اصبح دستوراً رسمياً للبنان، واحتفظ لنفسه بحق تعديله أو تصحيحه في المستقبل.
الا ان ترشيح النائب فرنجيه للرئاسة الأولى، أحدث اهتزازاً سياسياً في ٨ و١٤ آذار، لأن حلفاء زعيم تيار المردة يتمسكون حتى الآن بترشيح الجنرال عون، نواب ١٤ آذار المسيحيون لم يؤيدوا بعد كلياً ترشيح نائب زغرتا للرئاسة، وفي مقدمتهم القوات اللبنانية وحزب الكتائب والشيخ بطرس حرب المرشح السابق للرئاسة.
ويقول المراقبون إنه اذا ما تفاقم الصراع، فليس مستبعداً أن يعود السياسيون الى ترشيح الوزير السابق الأستاذ جان عبيد الذي سبق ورشحه وطالب به الرئيس نبيه بري. الا ان رئيس البرلمان، لم يتخلَّ عن ترشيحه، وان سار وصديقه وليد جنبلاط في ترشيح الرئيس سعد الحريري للنائب فرنجيه.
ويرى سياسيون عديدون، أن ازاحة عون ليست سهلة، لأن حزب الله والرئيس بري من مؤيدي الجنرال، في حين أن النائب فرنجيه لم يواجه حتى الآن بمعارضة من القوى الأساسية في ٨ آذار، التي في معظمها ترى في العماد عون رهانها الأساسي.
إلا أن الجميع يراهنون حتى الآن على الحوار الاقليمي بين المملكة العربية السعودية والجمهورية االاسلامية في ايران، لبلورة مفاهيم واضحة عن مستقبل المنطقة، في ضوء الصراع القائم فيما بينهما في اليمن.
وبرز في هذه الأثناء الدور الذي مثّله مؤسس دار الصياد الأستاذ الكبير سعيد فريحه، في أفكاره الثاقبة والظافرة، والدور الذي جسّده في تكريس حقبة الانتقال من الاستعمار والانتداب الى حقبة الاستقلال، وفوز الرئيس بشارة الخوري ورياض الصلح، بالحكم بعد تاريخ طويل في مواجهة الفرنسيين.
واستطاع سعيد فريحه بقلمه وبمواقفه من حمل شقيق الرئيس بشارة الخوري السلطان سليم الخوري على الاستقالة من النيابة، وعمد في نهاية عهد الرئيس كميل شمعون الذي عارض وكافح الفساد في مرحلة الأربعينات، وفي بداية الخمسينات من جعل الأقلام اللبنانية تؤازر سعيد فريحه، في حربه على الفساد والفاسدين، وطرح اسم الأستاذ الكبير اميل خوري لخلافة الرئيس كميل شمعون برئاسة الجمهورية اللبنانية.
وكشف الصحافي الشهير سليم نصار الذي روى في كتابه الشهر الفائت خارج الموضوع وقائع مميزة وباهرة عن تلك الأحداث:
كان سعيد فريحه صياد المواهب والأقلام ويختارها لرئاسة تحرير الصحف والمجلات الصادرة عن دار الصياد ايماناً منه بأن طاقات الشباب، وخريجي الجامعات، مؤهلون لتوظيف مواهبهم في تحديث الصحافة وتطويرها.
ويروي سليم نصار كيف كان يضم الأقلام البارزة والناجحة الى مؤسسته، وقد تجلى ذلك، كما يقول، على تغليب كفة المهنية على سواها من أجل ازدهار أصول الصحافة.
ويقول سليم نصار إن ذلك تجلى بصورة أساسية، وفي تجربة مهنية رفيعة المستوى، عندما ضمَّ الى أسرة دار الصياد كاتباً ذائع الصيت هو الصحافي اميل خوري الذي عُرف بكتاباته المميزة في صحيفة الأهرام المصرية، قبل أن يجذبه سعيد فريحه الى الصياد ليطلق العنان لتجربته الواسعة.
ويروي سليم نصار أشياء عن الاجتماع الاول الذي اراده سعيد فريحه ليعرّف الاستاذ الكبير اميل خوري الى الأقلام الشابة التي كانت تملأ صفحات الصياد والأنوار بالأخبار والمعلومات المثيرة، بما يدلل مرة جديدة على ان عميد دار الصياد في نظر سليم نصار وغيره من الصحافيين كان خبيراً في اجتذاب الاقلام الشابة وفي اعطائها الفرصة الذهبية لتظهر ما عندها وتتألق على صفحات أسبوعية الصياد ويومية الأنوار تحت اشراف سعيد فريحه، وعينه الساهرة على تنمية المواهب ضمن احترام قواعد مهنة الصحافة وأصولها.
ويتضح من خلال تصوير سليم نصار لشخصية اميل خوري ان هذا الأخير كان صاحب علاقات واسعة للغاية تمكّن من نسجها في خلال عمله الصحافي أولاً، وفي خلال عمله الدبلوماسي كسفير للبنان في الخارج لمدة ست سنوات ثانياً. وقد بلغت أهمية هذه العلاقات درجة انها كانت تجذب الى مجلسه في فيللا برمانا، عدداً من الاصدقاء الذين كانوا يستمتعون بأحاديثه من أمثال: كميل شمعون وحميد فرنجيه والقاضي خليل حريج…. كما يقول سليم نصار. وبمجرد أن يكون عميد دار الصياد، سعيد فريحه، قد فتح أبواب مطبوعاته لقلم بقوة قلم اميل خوري، وبسعة علاقاته الرفيعة، فمعنى ذلك أن الكاتب الكبير لا يخاف كاتباً كبيراً آخر، ولا يسعى الى استبعاده أو محاربته. على العكس، وفي عز ثورة ١٩٥٨ التي عصفت بلبنان بسبب الصراع بين راغب في التجديد للرئيس كميل شمعون، ومطالب بأن تجري الاستحقاقات الدستورية في مواعيدها كما يجب، فتحت دار الصياد ل الاستاذ الكبير صفحات الأنوار ليعبّر فيها عن تمسكه بضرورة محاربة دعاة التجديد، حسب تأكيد الكاتب سليم نصار.
ومع ان اسم اميل خوري طُرح بقوة، وعلى أعلى المستويات الداخلية والخارجية ليصبح رئيس الجمهورية بعد كميل شمعون، فقد ظل سعيد فريحه قادراً، بقوته وبمهنيته العالية، على استيعاب الاستمرار في استضافة قلم بارز جداً مثل قلم المرشح الرئاسي اميل خوري على صفحات الأنوار. يومها كانت المهنة في عصرها الذهبي المشرق، وكان لواؤها معقوداً لأساتذة كبار من أمثال سعيد فريحه…
وثمة رواية أخرى يتوقف عندها سليم نصار تتناول الجانب الدبلوماسي الرفيع الذي كان يتمتع به سعيد فريحه في تعامله مع زملاء أصدقاء، حتى لو كان يعرف في قراره نفسه عيوبهم، فكل همه هو الحفاظ على ما يمكن أن يقدّموه للمهنة.
لبنان الى أين ؟
سؤال يطرحه نزار يونس في كتابه عن جمهوريته، في ظل طبقة سياسية، وقعت من البدايات في الصيغة الطائفية التي يقول إنها شرعت اقتسام الوطن في ما بينها، وفقاً لأنماط ما برحت تزداد ضراوة ورسوخاً منذ اعلان لبنان الكبير وحتى مؤتمر الطائف، وبشكل خاص المعاناة القائمة منذ اقرار وثيقة الوفاق الوطني.
أين الجواب عن أسئلة كان من المنتظر أن تحرض الدولة المنتدبة؟
ويقول نزار يونس، وهو يشرح أبعاد جمهوريته إنها لم تكن في أكثر الأحيان تعبيراً عن قلق وجودي مكبوت لدى الفرد في مواجهة شعوره بانعدام الوزن في ظل مؤسسة الاحتراف السياسي، ويورد ان على المراقبين الاعتراف بكون العنف الغرائزي وشهوة الغاء الآخر، لم يوجَّها في أغلب الأحيان ضد الآخر الطائفي، بل كانا موجهين ضد الآخر، أي آخر. وعلينا أن نعترف بأن العنف الوحشي الذي مارسته الطوائف والأحزاب داخل مكونات كل منها، تجاوز العنف الذي تبادلته في ما بينها، وان أياً من الكيانات الطائفية لم يستطع تفادي تفجّر العنف الغرائزي وشهوة الغاء الآخر وقتله بين مكوناتها الذاتية وفي داخل كل منها.
ويضيف يونس: على رغم تفجر العنف المرعب في جوارنا وتمدده الى بعض من بلادنا، لا أزال أعتقد أن الطائفية لدى الشخص اللبناني ليست معطى سوسيولوجياً طاغياً أو ثابتاً، فهي قشرة سطحية تعبّر عن التوجّس من الآخر، لا بد لها من أن تزول عندما يُتاح للفرد استعادة صفاء ذهنه، في مجتمع محرر من الآفات التي ولّدها النظام الطائفي المتخلف. هذا الاعتقاد الذي يناقض المسلّمات التي تولدها الأوهام الشائعة حول نوايا الآخر الطائفي، لم يأتِ من فراغ أو من فكر عاكس لرغبات طوباوية أو لرأي فوقي، انما هو حصيلة خبرة شخصية لحياة حافلة بالأحداث وغنية بالتجارب.
ويقول نزار يونس: لقد قيّض لي أن أخوض تجربتي الأولى في النشاط الطالبي الوطني، غداة ثورة ١٩٥٨ الدامية التي انتهت بتسوية بين الأطراف الطائفيين أُطلق عليها صيغة لا غالب ولا مغلوب. كانت الثورة قد اتخذت منحىً عنيفاً ألقى بظلاله على المجتمع بأسره، ولم يسلم منه الطلاب الجامعيون الموزَّعون على جامعاتهم الأربع اليسوعية والأميركية واللبنانية والعربية، وعلى عدد من الكليات ومراكز الدراسات العليا التابعة لجامعات أجنبية. كان لكل من هذه الجامعات رابطة طلاب مستقلة، ولكل من الروابط توجه سياسي يعكس الولاءات والعصبيات الحزبية والايديولوجية والطائفية السائدة في البيئة التي يأتي الطلاب منها.
في عام ١٩٦٣، اختار ممثلو الهيئات المنتخبة في الكليات الطالب نبيه بري رئيساً للاتحاد. ومن اللافت أن يقدّم الجامعيون بعد ثورة طائفية المنحى على ايلاء مقاليد الحركة الطالبية الى الطالب نبيه بري، فلم يكن لدولة الرئيس أن يُنتخب رئيساً للاتحاد في تلك الفترة، لو قيّض للفكر الطائفي تملُّك عقول الشباب بعد تلك المحنة المؤلمة.
اتفاق القاهرة الذي أعلن نهاية استقلال الدولة اللبنانية، كرّس لاشرعية نظامها الطائفي العاجز، ومهّد للتدخل السوري الذي تولى ضبط ايقاع الحرب الأهلية، بين الطوائف وداخل الطوائف، بعد أن تمكن من استتباع الجزء الأكبر من رموز النظام. لكن لم يُتح له أبداً إطفاء شعلة الحرية والكرامة والفكر النقدي لدى النخب اللبنانية التي واجهت بارادتها الصلبة وسواعدها الهزيلة مشاريع الالغاء أو الاحتواء أو التذويب.
أوصلت الحرب الأهلية نظام المحاصصة الى نهاياته المحتومة، ودفعت المواقع الطائفية في مؤتمر الطائف الى التسليم بالتخلي عن النظام الطائفي.
ويرى نزار يونس أن حلم جمهوريته لا يتحقق برئيس توافقي، ولا بإدارة الأزمة، بل ان قدره أن يكون الرئيس الذي يواجه الأقدار بمشروع وطني جامع يلتف حوله الجميع، لقيامة لبنان الذي نريد.
اما إن شاء سوء الطالع غير ذلك، فان الأجدى هو ما فعله فؤاد شهاب، وأمله الأكبر استكمال تطبيق اتفاق الطائف.
ومن خفايا التاريخ أن حدة السجالات السياسية احتدمت في القرن الماضي حول مشروعية الوطن اللبناني، والتي ساهمت في اذكاء الهواجس والعصبيات، وتعثر محاولات اصلاح النظام وتحرره من وباء المحاصصة الطائفية.
يترسخ الاقتناع لدى اللبنانيين بشكل ما، ولدى الرأي العام العالمي المعني بمستقبل الحضارة المهددة في صميم قيمها، بأن نجاح التجربة اللبنانية رهان ضروري لمستقبل الحضارة الانسانية، وبأن مواكبة هذه التجربة وحمايتها لم تعد عالة على المجتمع الدولي، لأنها تحولت حاجة تأسيسية لفلسفة العيش معاً في عالم تحوّل قرية كونية مختلطة، حيث لم يعد ممكناً لأي عرق أو دين أو لون الانفراد في أية بقعة منعزلة منه.
يبقى أن رسالة لبنان ومسؤولية نخبه الفكرية والسياسية لم تعد محصورة في الشأن الوطني، بل تعدّته الى بُعد آخر. إن انجاح التجربة اللبنانية وصون فرادتها وتألق نتائجها رهان انساني كبير، يمر بالتحرر من المقاربات الرومانسية أو الغوغائية، والتوقف عند علة وجود هذا الوطن، وعند المسلّمات والأعراف التأسيسية للعيش معاً التي اعتمدها الأطراف المكوّنون للبنان ميثاقاً للقيام الدولة الراعية.
اذا كانت ارادة العيش معاً مسلّمة طبيعية في البلدان الموحدة إثنياً أو المنصهرة اجتماعياً وحضارياً، فهي ليست كذلك في الأوطان التعددية حيث يحتاج تظهيرها الى مواثيق تشكّل المرجعية القانونية المعترف بها للفصل في القضايا أو التناقضات الناجمة عن تباين الأغراض والمصالح الفئوية، ويشكّل التقيد بها الدرع القانونية الواقية من تنامي الريبة والهواجس والحذر من الآخر.
إن ميثاق العيش معاً لا يأتي بالطبع من فراغ، بل من تقاطع رغبات أو التقاء مصالح الجماعات المكونة للاجتماع على الشروط التي ارتضت القبول بها كأساس للشراكة في الوطن.
ولم يتوافر للاجتماع اللبناني في المراحل المتعاقبة التي تمخض خلالها الكيان الوطني، ميثاق تأسيسي مكتوب ودائم، ولكن ما كان لهذا الكيان أن يستمر لو لم تواكب المسار التاريخي لنشوء الوطن، أعراف وتقاليد صارت مسلمات، وبقيت، على الرغم من كل ما تعرض له اللبنانيون وقاسوه، المرجع الصالح للفصل في الكثير من الخلافات. وجاء أخيراً ميثاق الطائف ليؤكد وجود هذه المسلمات ويجددها، ويمهد الطريق لاستكمال مندرجاته في عقد مكتوب ونزيه وواضح، ينهي التخبط وتعدد الاجتهادات، ويزيح عن كاهل الوطن نظام التسويات والمساومات اللاقرار، ويرسم الطريق لبناء الدولة المدنية العصرية المنجزة والمحررة من المحاصصة الطائفية.
طبعاً، لقد أنهت وثيقة الوفاق الوطني الحرب وجمعت القضايا الأساسية المختلف عليها وأوردت في بداية الدستور الجديد، معظم التباينات منذ العام ١٩٢٦ حتى العام ١٩٩٠، وأكدت أن لبنان وطن سيد ومستقل، وان نظامه يقوم على الفصل بين السلطات وتوازنها وتعاونها والحفاظ على النظام الحر، واعتبرت الغاء الطائفية السياسية هدفاً وطنياً يقتضي العمل لتحقيقه وفق خطة مرحلية، وان لا شرعية تناقض ميثاق العيش المشترك.
الا انه يرى ان الرؤساء الذين تعاقبوا على قصر بعبدا، لم يشأ أي منهم الابقاء على القسم الدستوري.
وهكذا قادت الممارسات والتجاذبات بين الأطراف الاقليميين الى توظيف التوترات الداخلية لانتاج خطاب سياسي يدافع عن نظام المحاصصة الطائفي ويبرر الارتداد على ميثاق الطائف. وأخطر ما في الأمر، أن هذا الخطاب راح يخلط بين الميثاق والدستور، وبين الغاية والوسيلة، وبين الدائم والمتغير، بغية التهويل على الفئات اللبنانية المحبطة، ومفاقمة هواجسها، وتوظيفها درعاً للنظام المتكلّس الذي قاد الى تدمير السلم الأهلي وتهديد الوجود التعددي الآمن، ومحاولة تعطيل تحقيق الحلم اللبناني في الحرية والثقافة والتطور.
من المؤسف أن يكون لدى أكثرية الأطراف الطائفيين ميل الى توظيف ميثاق الطائف من أجل تحقيق مصالح وغايات طائفية وفئوية خاصة، يقودهم غالباً للخروج عن جوهر هذا الميثاق – الشرعة، الذي وضعه المؤتمرون في الطائف لانهاء مأساة كادت تقضي على أساس وجودنا الوطني. واذا كان من غير الجائز انكار الطبيعة العقدية لهذا الاتفاق والزامية وحتمية التقيد بالبنود الميثاقية التي يتضمنها، فلا يجوز في المقابل اضفاء الصفة العقدية على البنود الاجرائية، إن في وثيقة الوفاق الوطني أو في دستور الطائف. ومن الخطأ اعتبار هذه البنود غير قابلة للتصحيح أو للتعديل أو للاستكمال، كما لو ان وثيقة الوفاق الوطني المعروفة باتفاق الطائف بمختلف نصوصها قرآن أو انجيل لا يُمس.