IMLebanon

الوطن المعطّل في لبنان

ما إن ازدهر عصر الجمهوريات الملكية في الوطن العربي، حيث كان الرؤساء لا يغادرون مواقعهم الا بالموت او الاغتيال او الانقلاب، حتى بدأ لبنان يعاني من حسد عربي، فيضرب به المثل انه البلد العربي الوحيد الذي يمكن ان تجد فيه رئيساً سابقاً للجمهورية، غادر منصبه بهدوء، فور انتهاء المدة القانونية لولايته، ويواصل حياته في بلده، كمواطن عادي، بل ان هذا الحسد كان يشتد عندما تمر فترات نجد فيها أكثر من رئيس واحد سابق فقط، فيزيد الرقم الى اثنين، كما هو الحال الآن، من الرؤساء السابقين (اميل لحود وميشال سليمان). وكانت حالة الحسد هذه، تعبّر في ما تعبّر، عن إعجاب بديناميكية النظام الديموقراطي اللبناني، التي تذكّر بديناميكية النظام الديموقراطي لدى أكثر الامم الاوروبية عراقة في ممارسة الديموقراطية الجمهورية (فرنسا مثلاً)، او الديموقراطية الملكية الدستورية، (كبريطانيا واسبانيا وسواهما).

غير أن الأمور ما لبثت أن تدهورت لتصل مع الحرب الأهلية المديدة إلى دركها الأسفل. صحيح أن ديناميكية النظام الديموقراطي، لم تكن في يوم من الايام في الوضع المثالي الذي يستدعي هذا الحسد كله، حيث لم يمر انتخاب لأي رئيس جمهورية في لبنان، منذ الاستقلال في العام 1943، من دون أثر واضح وتدخّل سافر، لعدد من أصحاب النفوذ الإقليمي والدولي، غير أنه حتى هذا النمط المنقوص من الديموقراطية ظل حتى وقت غير بعيد، يتمتع بحيوية تأمين الانتقال السلمي للسلطة في لبنان، من رئيس جمهورية الى آخر، ومن رئيس للوزراء الى آخر، ومن مجلس نيابي الى مجلس تالٍ. غير أن تفاقم الاوضاع في المنطقة العربية اضطراباً واهتزازاً، منذ اغتصاب فلسطين في المشرق العربي وإنشاء دولة اسرائيل العنصرية، ما لبث أن اصاب بالعقم السياسي ائتلاف الطوائف الهش، فعادت الامور كما كانت عليه في منتصف القرن التاسع عشر، حين كان اختلاف المصالح الاقليمية والدولية ينعكس على ائتلاف الطوائف في لبنان، بحيث تصبح كل طائفة حاضنة لهذا النفوذ الخارجي وممثلة له الى حد بعيد. وقد ساء هذا الوضع في السنوات الاخيرة، حتى اقترب من اصابة الديموقراطية الطوائفية في النظام اللبناني السياسي، بحالٍ من الشلل الكامل، او هي وصلت الى هذا الحد فعلاً.

وليس من باب التفكّه ولا السخرية وحدها ما دأبت عليه «السفير» في مقالاتها التي تتصدر الصفحة الاولى، لناحية إحصاء عدد الايام التي يعيشها لبنان من غير رئيس للجمهورية (تجاوزت المئتي يوم بشهرين ونيف)، بل هي اشارة مريرة ومؤلمة لحالة التعطيل الكامل التي أصبح يعيشها كيان لبنان، في الفترة الاخيرة بشكل خاص. إذ لا قدرة على إعادة انتخاب رئيس جديد للجمهورية، بعدما تعذر التمديد لشاغل هذا المنصب للمرة الثالثة على التوالي، ولا قدرة على إجراء انتخابات نيابية، الى درجة أن المجلس النيابي ابتدع عادة التمديد الاوتوماتيكي لنفسه كلما انتهت مهلته القانونية. ومع ذلك، وقبله، لا قدرة على تشكيل سلس وهادئ وطبيعي لأي حكومة جديدة، اذ نذكر جميعاً الصعوبات الجمة التي رافقت انتاج الحكومة الاخيرة.

صحيح أن لبنان هو نموذج للاوطان الصغيرة التي تظهر فيها بسهولة أعراض النفوذ الخارجي، الإقليمي منه والدولي، غير ان هذه الحالة كانت موجودة دائماً، من دون تعطيل الديناميكية الديموقراطية، بل مع تسهيلها في بعض الأحيان. إلا أننا وصلنا اليوم إلى مشهد مأساوي، تعطلت فيه حالة الدولة، وصولاً إلى الشلل التام.