Site icon IMLebanon

ربحوا زبائن في منازلهم وخسروا خصوصية

 

زينب في الصرفند… أيمن في كفرنبرخ ونيكولا في برمانا

 

 

بعد «فيلات» القاهرة، وبيوت دمشق التراثيّة، وبيوت عمّان وتونس واليونان وإيطاليا، وغيرها، دخل البيت اللبناني على قائمة المطاعم المنزلية، لكن بصورة مختلفة، ما جعل هذه المشاريع متمايزة عن شبيهاتها في الوطن العربي والعالم، وأتت متوافقة مع شخصية اللبناني، كرماً وضيافة ومحبّة. فبدل أن يحوّل منزله إلى مطعم متكامل، جعل الضيف يشاركه سُفرته وداره وطعامه.

طاولات الضيافة، فكرة لبنانية انبثقت عن “بيوت الضيافة”، آخذة شكلاً ومضموناً مختلفين. ففي حين تعني الأولى إقامة مؤقتة تُشبه تلك التي تعتمدها الفنادق، يحصل الزائر خلالها على طعام ومنامة، تقتصر الثانية على مشاركة الزائر وجبةً واحدة فقط، فطوراً، أو غداء، أو عشاء، بحسب مواعيد الاستقبال المحدّدة سلفاً.

 

تتميّز طاولات الضيافة بتدنّي أسعار الوجبات بالمقارنة مع المطاعم بشكلها التقليدي، كونها لا تتطلّب إيجاراً أو خدمات مستقلّة، كالكهرباء والماء ورسوم التشغيل. وفي أغلب الأحيان لا تتطلّب موظفين وتقدِّم أصنافاً معدَّة على الطريقة البيتيّة، بالإضافة الى الأجواء العائلية التي توفّرها للضيف.

 

تردّي الحالة الماديّة للأسرة ليس السبب الدائم، أو الوحيد للجوء لمثل هذه المشاريع، فهناك من اختارها لشغفٍ بالعمل ذاته، أو لرغبة في إظهار مهارة أو فكرة، أو صنفٍ محدّدٍ يتميّز به.

 

تتوزّع هذه المطاعم على كامل خريطة الوطن، لكنها تكثر في القرى وتندُر في المدن، متّخذةً أنواعاً عديدة، تختلف من حيث قائمة الطعام وطريقة العمل. هنا، سنحاول الإضاءة على أربعة أنواع، يتميّز كلّ منها بطابع وطريقة مختلفين. ونبدأ رحلتنا من الصرفند في جنوب لبنان، التي تتميّز بشاطئها النظيف، وثروتها السمكيّة التي تمدُّ “السُفرة” على امتداد السنة بأنواع عديدة تُقدَّم طازجة.

 

تروي زينب خليفة قصّتها لـ”نداء الوطن”، فتقول: “على أثر الانهيار الاقتصادي الذي أخذ يتفاقم منذ العام 2020، احتُجزت أموالنا في أحد المصارف، كما جميع المودعين. وكان المبلغ المودع مخصّصاً لمصاريف دراسة ابني في كليّة الطبّ. بعد بحث طويل عن مخرج من الأزمة المستجدّة، جاءت فكرة إنشاء مطعم في المنزل بعد أن طلبت مني إحدى صديقاتي إعداد غداء لضيوفها، فاستقبلتهم على “سُفرتي”، وكانت مميّزة. ما جعل زياراتهم تتكرّر. ثم تزايدت أعداد الضيوف، كلٌّ منهم يخبر صديقه أو قريبه. فنجحت الفكرة، وما عادت “طاولة السفرة” تكفي، فاقتطعنا في البداية قسماً من المنزل. نقلنا منه المفروشات التي لا تتناسب مع المطعم، وأضفنا طاولات جديدة.

 

لكنّ ذلك، شكّل للأسرة المكوّنة من خمسة أفراد تراجعاً على مستوى الخصوصيّة المنزليّة. لذلك، وبعد ازدهار العمل، قرّرنا إضافة قسم جديد على المنزل، يكون مخصّصاً للمطعم، فيصبح مكان إقامة الأسرة منفصلاً. ما يسمح لها وللمطعم بهامش من الخصوصية، لكنّ المطبخ بقي مشتركاً، فهذه هي الفكرة الأساسية للمشروع، ولا يمكن الاستغناء عنها”. لذلك لا ترى زينب أي إمكانية للتعديل على المشروع في المستقبل، وإلا فقد رونقه، فالناس يقصدونه ليشعروا أنهم في المنزل، وأي تعديل قد ينسف فكرة المشروع.

 

نظراً للإقبال الشديد الذي يشهده هذا النوع من المطاعم، تتوقّع زينب أن يزداد انتشارها مع تقدّم السنوات. وتدعو النساء للانطلاق في عالم الأعمال وفق ما يناسب تطلعاتهنّ وأحلامهنّ. فحتى في المنزل يمكن للمرأة أن تكون منتجة، وأن تحقّق طموحاتها.

 

نترك الصرفند، ونتّجه صعوداً الى قرى جبل لبنان بحثاً عن نوع آخر من هذه المطاعم، فنتوقّف في بلدة كفرنبرخ، حيث نلتقي أيمن حسن، الذي اتّخذ من مطبخ منزله مكاناً لتحضير اللحوم وتجهيزها للشوي. وعلى الشرفة المطلّة على الطريق توزّعت المجامر، عابقةً برائحة لحوم تنضج على مهلٍ، وتنتظر صاحبها.

 

“الشواء على الطلب، ولا نقدّم صنفاً سواه. نستلم الطلبات ونحضّرها، ثم نرسلها الى الزبائن. ليس لدينا طاولات، فهم إما يحضرون بأنفسهم لاستلام طلباتهم، أو نرسلها نحن بطريقة Delivery”، يقول أيمن. ثم يخبرنا عن مشروعه: “أعمل فيه أنا وزوجتي فقط. كثيرون زارونا ليتأكّدوا بأنفسهم من أننا نعمل في مطبخ المنزل، وأن لا عمال لدينا. وبعد تحقّقهم من الأمر، باتوا يطلبون خدمة توصيل مرتاحي البال. هذا ما يريده الناس، يريدون أصنافاً محضّرة في المنزل”.

 

هو متقاعد من قوى الأمن الداخلي، بدأ مشروعه في كانون الأول 2023، بعدما تقلّص الراتب الى حدّ العجز عن سدّ حاجات الأسرة. فكان لا بدّ من دخلٍ إضافيّ. وبسبب عدم قدرته على استئجار وتجهيز مطعم منفصل، قرّر إطلاق مشروعه من المنزل.

 

ويتابع: “بسبب انعدام الثقة بالرقابة، تحوّل الناس الى المأكولات التي تُصنع في المنازل، فنحن نطعم الناس ما نطعمه لأولادنا. وبالرغم من أن منزلنا في مكان يصعب الوصول إليه بين الأزقّة الداخلية، لكنّ الناس يسألون أهالي البلدة ويستدلّون. ولا شكّ أن وسائل التواصل الاجتماعي ساهمت بالإعلان والترويج”.

تراس نيكولا

نتابع شمالاً، فنصل الى برمانا، هناك، أمام منزله، على “تراس” محاط بأشجار صنوبر وبطبيعة خلّابة، حطّ المهندس الزراعي نيكولا صياح رِحَالَ أفكاره، فتجسّدت أصنافاً مبتكرة من الطعام الإيطالي، وبالأخص “البيتزا” بمكوّنات جديدة. كان ذلك منذ عام بالتحديد. “أنا مغرم بصناعة العجين، وفي الوقت ذاته لا أريد التخلي عن عملي الرئيسيّ، لذا، قرّرت أن أفتتح مطعمي الصغير المتخصّص في منزلي في برمانا”. يقول نيكولا لنداء الوطن، ثم يشرح بالتفصيل: “ليس في المطعم إلا طاولة واحدة. وهي تتّسع لعشرين شخصاً. أما الزبائن فيحضرون في مجموعات، لا تقلّ كل مجموعة عن خمسة أو ستة أشخاص. هو مكان يُشعر زائريه بالخصوصية والهدوء. بالإضافة الى أن الأصناف التي نقدّمها ليست موجودة في السوق اللبنانية”.

 

ولدى سؤاله عن مدى تأثير دخول غرباء الى المنزل على خصوصية الأسرة، أجاب: “بعدما رزقنا بمولود، شعرنا أن هذا العمل بات يؤثر بالفعل على خصوصية العائلة، فمهما حاولنا الفصل، لكنّ الناس يحضرون يومياً الى منزلنا للغداء أو للعشاء، ولا بدّ لاستقرار الأسرة من أن يتأثّر، لذلك كنا بحاجة الى اتّخاذ قرار يعيد لنا الخصوصية المفقودة، فانتقلنا للإقامة في منزل آخر، منفصل عن المنزل الذي يحتوي المطعم، لكننا حافظنا على طابعه الذي كان عليه”.

 

أما عن سبب نجاح هذه المشاريع، فبرأيه أن “الخصوصية باتت مطلباً رئيسيّاً للناس، لذلك هم يتجنّبون الاكتظاظ في المطاعم، ويتّجهون للمطاعم الخاصة أو الصغيرة، وتحديداً تلك التي تستقبل الزبائن في المنازل”.

 

ننهي حديثنا مع نيكولا، ونكمل باتجاه السماء، الى أعالي الجبال، حيث الأرز يعانق الغيوم بأبّهة وجمال. ها نحن في معاصر الشوف، نرتشف النبيذ الفاخر من الـwinery مباشرة بضيافة غسان نجيم.

 

بيت غسان، واسع الكَرَم والمساحة، يتّسع لثلاثة أقسام: بيت للسكن، مصنع للنبيذ، ومطعم له خصوصية تميّزه عن غيره من المطاعم. فهنا، ترتكز قائمة الطعام على مأكولات أجنبية تتلاءم مع جلسة النبيذ، كالأجبان المتنوّعة، وشرائح اللحم، والسومو، وغيرها.

 

أخبرنا أنه بدأ العمل بمصنع النبيذ منذ العام 2001. “أما المطعم، فقد افتتحناه منذ ثماني سنوات. بعد ذلك جاءت الأزمة الاقتصادية، لكننا لم نتأثّر بها على الإطلاق، فزبائن المطعم دائمون، وكل مرة يأتي زائر جديد، يحضر آخرين، وهكذا يستمرّ العمل. أما المصنع، فـ 70% من منتجاته تصدَّر للخارج، والباقي يقدّم في المطعم”. ذلك النبيذ الذي لا يُباع في الأسواق اللبنانية، يقول عنه غسان إنه ينافس النبيذ الذي كان يقدّمه الرومان لآلهتهم، في إشارة الى جودته.

الشروط الصحية

يقول مصدر في وزارة الصحة لـ”نداء الوطن”: “لا تتوانى وزارة الصحة عن إرسال مفتشين صحيين الى أي منزل يقدّم أطعمة مدفوعة، في أي منطقة كانت، بشرط أن نعلم بوجودها. وغالباً، المراقبون الصحيّون هم من يُبلغون الوزارة.

 

عندما يتمّ إرسالهم رسمياً، يطلبون من أصحاب المنزل أن يباشر بالترخيص لمشروعه إذا كان غير مرخّص. ثم يطلبون من جميع العاملين إبراز شهادات صحيّة. مصدرها المستشفيات الحكومية، مُصادق عليها من أطبّاء الأقضية. ولا توافق وزارة الصحة على أي تصريح بالعمل، إذا كان للمنزل مدخل واحد مشترك بين الزبائن والعائلة. فصالات الطعام يجب أن تحظى بمدخل خاص، وحمّامات خاصة. ومن مسؤولية وزارة الصحة الكشف عليها، كما على المطبخ، والتأكّد من التهوئة السليمة، ونظافة الأواني والبرادات، وسلامة التخزين، وكلّ ما يتعلّق بسلامة الأغذية”.

 

أما عن الترخيص لهذه المطاعم، فيقول: “يصدر الترخيص عن وزارة السياحة، بناءً على كشف وموافقة وزارة الصحة، بعد الإفادة بعدم ممانعتها من إصدار الترخيص”.

 

ثم يؤكّد المصدر لنداء الوطن أن “وزارة الصحة تتابع جميع المشاريع المتعلّقة بخدمات تقديم الطعام، من خلال طبابات الأقضية، سواء أكانت في منزل أم في أي مكان مستقلّ. وهي تقوم بما يلزم رغم هذه الظروف الصعبة والرواتب المتدنية للموظفين”.

وهل يُكتب لها الاستمرار؟

تقول ندى نعمي، نائب رئيس جمعية المستهلك – لبنان، لـ”نداء الوطن”: “هذه المشاريع مرتبطة بالسياحة الريفية، ومنتشرة في جميع دول العالم، لكنّها محكومة بقواعد وقوانين، ليست كما هي عليه في لبنان. فنحن نأخذ الفكرة ونطبّق بطريقة فوضوية. حتى المطاعم بشكلها التقليدي، ليست مراقبة في لبنان كما يجب، والدليل أن المطعم الذي تعرّض لانفجار غاز منذ أيام قليلة، لم يكن المحافظ يعلم بوجوده أصلاً، بالرغم من أنه في قلب العاصمة، على مدخل وسط المدينة”.

 

فكرة إنشاء مطاعم في المنازل ليست غريبة عن دول العالم، لكن تلزمها جهة ترعاها وقوانين تحكمها، أما أن تعمل بدون ضوابط فهو ليس بالأمر المقبول. على الأقل يجب أن يكون المشروع إما مرخّصاً، أو مراقباً من قبل البلدية ووزارة الصحة.

 

ثم تتابع نعمي، أن “هذه المطاعم قد أصبحت جزءاً من القطاع السياحي الخدماتي، واقتصاد لبنان قائم على الخدمات، ولا شك أنها ترفد الاقتصاد، كما تضيف الى السياحة نمطاً جديداً من الممكن أن يُبنى عليه، فوجودها جيّد ومهمّ، لكن بشرط أن تكون مراقبة، للحفاظ على سلامة الناس”.

 

سُفرة ضيافة، مطعم take away، طاولة طعام إيطالي، مطعم مع winery. أربعة أنواع مختلفة من المطاعم المقتطعة من المنازل، يتّفق أصحابها جميعاً، على أن مستقبلها في لبنان هو الازدهار والمزيد من التنوّع والتوسّع، وبالرغم من أن مردودها المادي على صاحب المشروع أقل، لكنها لا ترتّب عليهم نفقات عالية، ما يخوّلهم تقديم الخدمات بسعر أدنى.

 

جميع من تحدثنا معهم قالوا إنهم سيعملون على تطوير مشاريعهم كما هي اليوم، سيحافظون على جودة وسلامة الغذاء، لكنهم لن يبدّلوا شكل هذه المطاعم، فبحسب أقوالهم، إن الناس يطمئنون أكثر للطعام المنزلي، خصوصاً مع انعدام الثقة بالرقابة الرسمية للمؤسسات السياحية.