عندما يصل دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، وعندما يسبقه إلى الأليزيه نيكولا ساركوزي ثم فرنسوا هولاند. عندما تفضي «الثورات» في العالم العربي إلى بعض الصور الكاريكاتورية. عندما ينتهي زمن «الكبار» من طراز فيديل كاسترو. عندما تصبح فلسطين القضية والشعار والعَلَم والعنوان مجرد صراع عقاري أو صراع على منصب بين متنازل وعميل. عندما تصبح إيران هي العدو وإسرائيل هي الصديق لمعظم دول الخليج.
.. عندما يعم الدمار والموت وطننا العربي الكبير من مشرقه إلى مغربه. عندما تنتفي الحدود بين العرب ليس لمصلحة وحدتهم بل لأجل تقسيمهم وجعلهم مجرد خائفين وطوائف ومذاهب وعشائر.
عندما نعتاد في صباحاتنا ومساءاتنا على صور الإرهاب والتكفير والموت المجاني في مجاهل الحدود والبحور،
يصبح تقهقر السياسة والاقتصاد والثقافة والاجتماع.. والصحافة من البديهيات.
هذه هي أحوال عالمنا العربي ولبنان. وهذه هي أحوال صحافتنا.
كانت الصحافة، ولا تزال، مرآة المجتمع. ولهذا تحديداً كانت متألقة وصارت تعاني. فالمجتمع ليس بخير، والاقتصاد ليس بخير، والسياسة ليست بخير، وهذا كله لا يمكن إلا أن ينعكس على الصحافة وينهكها.
تعبت «السفير»، لكنها ترفض أن تكون المثال، خصوصاً أنها ترى في أفق المهنة بعض النور. إذ لا يعقل أن يبقى الظلام المخيّم على المنطقة والبلد جاثماً على صدرها وزميلاتها لوقت طويل.
في السنوات الأخيرة، كان حجم الموت والخراب الذي طرق أبواب معظم الدول العربية هائلاً. سوريا ما تزال تنزف بعد مرور نحو ست سنوات على الحرب. ليبيا لم تستطع لملمة جسدها الممزق. الجرح اليمني ما يزال ينزف. العراق صار يلهث خلف هويته. فيما «أم الدنيا» لم تعد قادرة على إطعام عيالها. كيف يعيش الإعلام وسط هذه النيران ومما يتغذّى؟
لطالما كان هذا السؤال يؤرق أهل المهنة، طيلة السنوات الماضية. فلبنان ليس جزيرة معزولة، كما لم يكن يوماً كذلك.
لم يكن أحد ليصدق في بداية الأزمة السورية أن الحريق لن يطال لبنان الهشّ. لامسته النار مراراً، لكن أبناءه، الذين خبروا ويلات الحرب، رفضوا الانصياع للغة الرصاص وصانوا سلمهم الأهلي بالحد الأدنى من الخسارات.
وبرغم كل خلافاتهم، تمكّن اللبنانيون من عزل أنفسهم عن ألسنة النيران. لكن هذا لا يعني أن لبنان بخير. سوريا هي الرئة التي يتنفس منها. والفضاء العربي هو الذي يمدهّ بالهواء. فكان أن تفرّق العرب وتحاربوا، وانعكس ذلك أول ما انعكس على الاقتصاد اللبناني.. شريان الصحافة.
ثم، ماذا يعني أن تقفل صحيفة لبنانية أبوابها؟ هل قلّت مساحة الحرية في البلد إلى درجة لم يعد للصحافة المستقلة من مكان فيها، أم أن الخواء صار صفة ملازمة، لبلد يفشل مسؤولوه، خلال سنتين، من رفع النفايات من أمام المنازل، تماماً كما يفشلون في إنارة هذه المنازل بكهرباء صرفوا عليها مليارات الدولارات ولا تزال مقننة!
الصحافة واجهة الأوطان. ولأنها كذلك تميّز الإعلام اللبناني عن مثيله العربي. فتداول السلطة في لبنان سمح بوجود منصات إعلامية عريقة قادرة على مواكبته بصناعة متطورة وحرة. المعيار نفسه حكم الصحافة في العالم الأول، لكن في تلك الدول، يتم التعامل معها أيضاً كقطاع اقتصادي أساسي، مثلها مثل الصناعة والزراعة والتعليم، وكرمز وطني مثلها مثل العلم.
للصحافة المكتوبة اللبنانية تاريخ عريق، جعل العاملين فيها ينتشرون في مختلف الدول العربية، فيزرعون فيها بذور المهنة. لكن هؤلاء الصحافيين أنفسهم مارسوا المهنة في بلدهم كفعل نضال يومي.. بعدما تخلّت السلطات المتعاقبة عنهم، ولم تتعامل مع الصحافة كوجه حضاري، بل كانت في معظم الأحيان ولا تزال على خصومة دائمة معها.
الصحافة الورقية تحديداً لم تمُت. لا بل إن مرضها قابل للعلاج. ليست المعجزات مطلوبة بل السياسات. وهذا يستدعي بداية وجود سلطة تملك رؤية. الأمل ليس كبيراً في سلطة لبنانية لم تتأخّر في التنبّه إلى أن التصدع الذي يصيب المهنة، إنما يصيب البلد أيضاً، بل في كونها تريد أن تكدّس ثروة وسلطة ومحسوبيات ولو على حساب هواء الناس وشربهم وأكلهم وحياتهم.
سعت الحكومة السابقة إلى دعم الصحف، فتعثر مشروع وزير الإعلام السابق رمزي جريج في زواريب التعطيل. وها هي المحاولة تتكرر مع الوزير ملحم رياشي، الذي بدأ يُعدّ تصوراً لإنقاذ الصحافة الورقية. التقديرات تشير إلى أن قيمة الدعم قد تصل إلى ما بين 10 و15 مليون دولار سنوياً، بما يعني أن كل صحيفة قد تحصل على ما يقارب المليون دولار. أما ما هي الآلية، فهي غامضة، خصوصاً أن الوزير في القصر من مبارح العصر، والأمر يحتاج أكثر من فكرة واقتراح ونية حسنة.
إذا وافق مجلس الوزراء على المشروع، فسيعطي ذلك الأمل بأن أزمة الصحافة الورقية قد تعرف طريقاً للحل. لكن هذا الحل، يتطلّب الكثير إلى جانب الدعم الحكومي. يتطلّب الاقتناع بأن غياب صحيفة أو اثنتين عن الصدور ليس أمراً يمكن التسليم به كقدر. ذلك إنذار بالغ الدلالة والقسوة إلى أن البلد ليس على ما يرام. أزمة الصحافة لا تُحلّ بالدعم المادي، على أهميته، فحسب. على الدولة أن تحميها كما تحمي آثارها ومؤسساتها.. لا كما تحمي أزلامها.
وهذا لا يكفي. الصحف الورقية تعاني أزمة وجودية، لكنها لن تموت. هو عصر جديد ينبغي التعامل معه بأدواته. الانتقال مطلوب جماعياً لا فردياً فقط. وجماعياً يمكن قراءة الموضوع من عنوانه. فنقابة صحافة تغرق في الزبائنية، ولا تمثل سوى أصحاب الامتيازات والأموال، ولم تنتبه إلى أن الصحافة تعاني.. لا يمكن أن تؤتمن على مهنة مرهقة، وينسحب ذلك أيضاً على نقابة المحرّرين.
المطلوب ثورة في الجسم الإعلامي حتى يُعيد الحد الأدنى من الاعتبار لنفسه، قبل أن ينطلق لمطالبة الآخرين بواجباتهم.
هل الفرصة متاحة؟
نعم، وأكثر من أي وقت مضى، وهذه أمنية «السفير» وهي تطوي أيامها الأخيرة، لعل الصحف والمجلات الزميلة تحمل الراية وتكون بقدر التحديات التي تواجه لبنان والمنطقة بأسرها.