Site icon IMLebanon

تضارُب الصلاحيات بين ربّ البيت و”ربّانة السفينة”

 

بعد 45 عاماً صرنا كلنا انعزاليين، عزلنا أنفسنا داخل بيوتنا، تقوقعنا كلّ في بيته ومنطقته، وما عاد يحق لأحد أن يتّهم أخاه بالمواطنية بالانعزال. هو انعزال حميد يحمي البلاد والعباد من خطر الفيروس المشؤوم، لكنه يحوّل البيوت الى “عصفوريات” صغيرة ويجعل سكانها قنابل موقوتة مهددة بالانفجار في أي وقت ما لم يعمل كل فرد فيها على فك الصواعق ونزع فتائل الانفجار.

بيوتنا انقلبت رأساً على عقب وروتيننا اليومي نُسف من أساسه. لم يعد البيت منزلاً تسكن فيه العائلة بل صار مدرسة وجامعة ومركزعمل ومطعماً وملعباً ومختبراً علمياً. لم يعد الأب والداً يفرض هيبته على أهل البيت فحسب بل طاهياً متمرناً، وكهربائياً هاوياً، وعالماً منظّراً بعلم الأمراض الجرثومية والفايروسية ومراقباً حثيثاً وناقداً فذاً لكل نشاطات البيت، الى جانب الكثير من المهارات الأخرى التي تتكشف يوماً بعد يوم.

 

الأم المطمئنة لكونها تحضن الجميع تحت جناحيها بأمان، تضاعفت واجباتها وتكاثرت الأعمال المطلوبة منها وباتت طاهية وحلونجية ومدرّسة وعالمة نفس وممرضة واختصاصية في التعقيم، إضافة الى دورها كقوة فصل بين المتخاصمين وصاحبة قدرة خلاقة على ابتكار الحلول لكل ما يحدث من اضطرابات داخل جدران العزل.

 

الأولاد فئات تختلف أدوارهم المستجدة داخل البيت باختلاف فئاتهم العمرية. المراهقون والشباب معزولون اصلاً في بيوتهم، يعيشون خلف شاشاتهم في عالم خاص بهم. لم ينتظروا قراراً رسمياً بالعزل المنزلي حتى يلزموا غرفهم وعالمهم الافتراضي، أما الصغار فرغم أنهم لا يفهمون جيداً ما يجري من حولهم ويتململون من الزربة، يبقون صغاراً فالولد ولد وهو ضحكة البيت وحيويته حيناً وعصفوريته وجنونه أحياناً كثيرة. بخناقاتهم ونقهم ومللهم وفورات أعصابهم يتحكمون بالبيت وأهله في العزل وخارجه.

 

العزل فرصة ذهبية لعلاقات صحية

 

نسأل د. نزار أبوجودة الاختصاصي في علم النفس الاجتماعي والاستاذ المحاضر في الجامعة اللبنانية كيف سيتحمل اللبنانيون هذا الحجر الاختياري وكيف ستكون انعكاساته على العلاقة بين أفراد العائلات داخل البيوت؟ هل يمكن أن يفجر العلاقات كما توحي به النكات الكثيرة المتداولة على مواقع التواصل؟

 

الإجابة تفاجئنا. فمن قال ان نمط الحياة المدنية المعاصرة التي نعيشها وعصر الاستهلاك الذي حولنا الى روبوتات آلية هو حياة مثالية؟ من قال إن العلاقات العائلية والاجتماعية التي بنيناها في عصر الاستهلاك هي علاقات صحية سليمة؟ نحن نعيش في نمط معيشي، ثقافي، استهلاكي حوّل المنزل الى فندق، تماماً كما فعل سياسيونا بالوطن. حياتنا هي سعي مسعور لجني المال بغية تأمين كافة المتطلبات الاستهلاكية لنا ولعائلاتنا، بالكاد يرى أهل البيت الواحد بعضهم، يجتمعون ربما نهار الأحد على طاولة غداء في مطعم ما أو حول منقل فحم مع المشاوي والشباب يتبادلون أطراف حديث باهت لا يدخل في العمق ولا يطال الحميميات. هل كنا قبل العزل مثلاً نمضي ايامنا بين المتاحف والمسارح والنشاطات البيئية والثقافية أم أن حياتنا كانت عملاً وزحمة وأراكيل ودرينك؟

 

اليوم ربما يكون العزل المنزلي،على صعوبته، فرصة إيجابية ليعود أفراد العائلة الى رحمها ويتعرفوا الى بعض من جديد ويكتشف كل منهم الآخر بتفاصيل حياته ورغباته واهتماماته.

 

لا ينكر د. نزار صعوبة التعايش في فضاء مقفل لكنه يؤكد أنه إذا كان ثمة نية وإرادة يمكن تحويل هذه التجربة الى أمر إيجابي. فالعزل حالة فرضت علينا ولا حل أمامنا سوى السعي الى الاستفادة منها لتعزيز الصلة والتواصل بين أفراد العائلة وجعلها فرصة لقضاء وقت نوعي مع العائلة لا وقتاً كمياً وحسب والتعرف بالعمق الى الآخر.

 

هل هي مجرد نصائح نظرية نسأل الاختصاصي؟ وهل الأمر ممكن بجدٍّ في مساحة معزولة ضيقة وسط جدران أربعة؟ يؤكد لنا انه من الممكن جداً إنجاح التجربة شرط ألا ينعزل كل فرد خلف شاشة هاتفه. فالوقت هو وقت مشاركة، نضع فيه الهاتف والكمبيوتر جانباً، ونتشارك في الأحاديث والنقاشات والألعاب والنشاطات. نبعد أنفسنا عن التواصل الوهمي لنقترب من الآخر الحقيقي الموجود قربنا. ففي حياة كل فرد تفاصيل كثيرة لم يكن لدى المقربين الوقت للاهتمام بها وها هي الفرصة تقدم لهم على طبق من فضة للتعرف اليها والتنبه لها واكتشاف أمور ربما لم تخطر لهم في البال قبلاً. هي فرصة ليتقرب الأهل من أبنائهم ويتعرفوا أكثر إليهم والى تفاصيل حياتهم ويتقرب الأبناء من أهلهم ويشاركونهم أفكارهم ومخاوفهم وآمالهم. فمسؤولية تحويل العزل الى تجربة مقبولة هي مسؤولية مشتركة يتقاسمها الأهل والأبناء.

 

في العزل احذروا الوحدة!

 

رغم الإيجابيات النظرية لا يمكن إنكار بعض المخاطر التي يمكن أن ترافق العزل المنزلي الإجباري وبعض السلبيات التي قد تؤدي الى الانفجار. فمخاطرالعزل قد لا تنحصر في هذه الفترة المحدودة فقط بل يمكن أن تترك آثاراً سيئة مستمرة تطال الحياة لاحقاً، أما السلبيات فهي إزعاجات يومية تلامس الطرافة تنتهي بانتهاء الأزمة.

 

من أبرز المخاطر التي يولدها العزل المنزلي الوحدة. والوحدة تختلف عن العزلة وهي الشعوربعدم وجود اشخاص يشاركون المرء أفكاره ومخاوفه واحلامه ويتفهمونه ويساندونه. اما العزل فما هو إلا البعد بالمسافة عن الآخرين، عن العمل، عن الأصدقاء والأهل. الوحدة خطرة تؤثر على الصحة العقلية والجسدية للإنسان فتخفف من مناعته وتخلق عنده شعوراً بالخوف قد يؤدي به الى الاكتئاب وقد تتحول بسرعة الى عادة يصعب كسرها والخروج منها لذا مسؤولية كل فرد ان يبتعد عن الوحدة ويتقرب من الآخرين وأن يلاحظ مِن حوله مَن هم الأفراد الميالون الى الوحدة ليعمل على إخراجهم منها.

 

انتبهوا الى صغاركم

 

يشير د. أبوجودة الى ضرورة التنبه بشكل خاص للأولاد الصغار حتى عمر سبع سنوات الذين غالباً ما يكونون خائفين لا يدركون ماذا يجري من حولهم ولمَ عليهم الابتعاد عن مدرستهم واصدقائهم والإنزواء في البيت. وقد ينطوون على انفسهم في وحدة يمكن أن تتحول الى سلوك دائم. لذا مسؤولية الأهل كبيرة في التحدث مع صغارهم وإبقائهم نشطين، منهمكين بنشاطات مختلفة ترفيهية، رياضية، تعليمية ومشاركتهم بها وإلا فإن خوفهم قد يتحول انزواء والإنزواء الى وحدة تؤدي الى الخمول وبعدها الى الاكتئاب. وهذا المسار قد يصح عند الكبار أيضاً إذا ما استسلموا للخمول والكسل والعادات السيئة وأمضوا وقتهم جالسين أمام شاشاتهم في أسرّتهم بثياب النوم أو يتلهون بالأكل واللقمشة بعيداً عن أي نشاط بدني رياضي.

 

يحذر الاختصاصي إذاً من الاستسلام الى العادات السيئة، ولكن هل يمكن تجنب البراد في هذه “الزربة” الصعبة؟ وهل يستطيع الزوج ألا يتدخل في ما لا يعنيه من شؤون المطبخ والتعقيم؟ أو تتمكن ربة البيت أن ترخي قبضتها قليلاً فلا تسعى بالتحكم بكل شاردة وواردة فيه؟ أما الصغار فهل يمكن أن يتحولوا بقدرة قادر الى ملائكة يسمعون كل كلمة تقال لهم؟ بالطبع ليس هذا بالأمر السهل لا سيما وأن ضيق المساحة يفرض على الجميع تقديم الحد الأدنى من التنازلات ليتمكنوا من التعايش بسلام والمسؤولية هنا موزعة على الجميع.

 

“أوعا النكد”

 

الزوج الذي لم يكن سابقاً يجد الوقت للتنبه الى التفاصيل، ها هو اليوم يلاحظها كلها ويتحشر بكل شيء وله كلمته في كل كبيرة وصغيرة، هذا إن لم يكن في السابق حشرياً بطبعه ونكداً. الخطر أن يتحول الى ناقد سلبي تخلق انتقاداته وملاحظاته احتكاكات بينه وبين أفراد العائلة. “تروك التلفون من إيدك” صرخة قد تؤدي الى شجار مستحكم مع ابنه الشاب الذي لم يترك التلفون يوماً من يده لكن والده لم يكن يلاحظ ذلك وإذا به يكتشف البارود فجأة في هذه الزربة ويسعى لفرض هيبة ابوية في غير وقتها، صار يلاحظ التفاصيل وينتقدها فيما الأجدى به أن يبدي وجهة نظره بطريقة بناءة إيجابية لا تشعل الأجواء في البيت او أن يغض النظر ببساطة عن أمور لا تستحق النكد.

 

الأم، ربة البيت، قائدة السفينة التي تشعر أنها مسؤولة عن الجميع دورها ملتبس في العزلة المنزلية الإجبارية: فمن جهة تجد نفسها بحاجة لفرض نظام حياتي وصحي وتربوي صارم ولا تقبل المساس به، ومن جهة أخرى تصبح شديدة الحساسية تجاه اي نقد يوجه لها أو أي نقص في المساعدة تلحظه من قبل الزوج أو الأبناء. ويشير د. نزار أبوجودة الى ان دور الأم محوري في الحفاظ على توازن البيت في زمن العزلة إذ عليها وضع قواعد محددة واضحة تخفف من تضارب الواجبات والصلاحيات بين افراد الأسرة، إنما عليها كذلك أن تخفف عن نفسها وعن أهل بيتها وتترك لهم بعض الحرية ليتنفسوا وسط هذه الزربة الصعبة فتغض النظر عن الارتكابات البسيطة التي لا تقدم ولا تؤخر في ظروف كهذه.

 

ومن مسؤولية الجميع أن يراعوا بعضهم البعض ويشعر كل طرف مع الآخر لأن الظرف الصعب يولّد حساسية مفرطة عند الكل وتخف قدرتهم على التحمل من هنا ضرورة ان يلزم كل فرد نفسه بتفهم الآخر والشعور معه وعدم جرحه بالكلام او السلوك.

 

العزل أعادنا الى عائلاتنا وقيمنا وأعاد عائلاتنا إلينا، شدّ الأواصر بيننا وأرجع إلينا نمط علاقات طبيعية، إنسانية وروحانية. أبعدنا عن قشور تلهينا بها طويلاً وألزمنا بضروريات نحتاجها. صرنا نعرف أولوياتنا، اسقطنا من قواميسنا اليومية عادات كثيرة سيطرت على حياتنا وتحكمت بها. وعند انتهاء هذه التجربة الصعبة بإمكاننا ان نصرخ: انعزاليون ونفتخر…

 

مهما حاولنا تبسيط العلاقات داخل البيت، يبقى الإنعزال تجربة صعبة نجهل كيف نتعاطى معها. ولكن صعوبة الأزمة وغرابتها تجبرنا على ابتكار حلول تساعدنا على الصمود.

 

– العودة الى الطبيعة التي أبعدتنا الحياة الاستهلاكية عنها فيما هي تمنحنا الإحساس بالأمان والحماية كالأم الحنون.

 

– الحفاظ على جهوزية نفسية وجسدية، بالشكل والمضمون أي عدم الاستسلام للخمول والتراخي والاهتمام بالمظهر والثياب والنظافة الشخصية.

 

– وضع برنامج محدد لليوم يناوب بين النشاط والاستراحة مع اعتماد الملابس الملائمة لكل نشاط كما في أيام العمل العادية بالنسبة للكبار والصغار.

 

– عدم السعي الى مجرد قتل الوقت لما في ذلك من انعكاس سلبي فكري وجسدي.

 

– العودة الى الأصيل، أي الى الكتاب بمعلوماته الموثوق بها وتجربته الشيقة.

 

– ممارسة نشاط رياضي حتى وإن كنا في السابق من غير المحبذين للرياضة، عله يتحول الى عادة إيجابية.

 

– القيام بكل ما كنا نفتقده في السابق، مثل التحدث مع الأصدقاء،الاهتمام بالحديقة، مشاهدة افلام ومسلسلات لم يتح لنا الوقت لها، الاسترخاء وتناول كاس.

 

– القيام بنشاطات ترفيهية مشتركة بين كل افراد العائلة ولا سيما مع الصغار والتركيز على النشاطات الخلاقة التي تجعل الجميع يفخرون بما أنجزوه من أعمال فنية، مطبخية وغيرها.

 

– إطفاء الشاشات على اختلافها لفترة محددة كل يوم.