IMLebanon

تصبحون على وطن؟

من حسن حظ اللبنانيين، أن لبنان ما يزال موجوداً. تعتريه عوارض قاتلة، ولكنه حيُّ يُرزق. يعيش على حافة الهاوية ولا يسقط فيها، مدرَّب على انتاج الأزمات ومراكمتها. مقتنع بالحلول المستحيلة فلا يلجأ إلى أي حل… سره في نظامه الفريد، يتبدَّد ويتجدَّد، وهو في عهدة طبقة سياسية ـ طائفية ـ مالية، أقوى منه، ولكنها لا تتجرأ عليه. فهو حمايتها وهي حامية له من السقوط، أو الانحراف إلى الصراط الوطني… وسره كذلك في مؤهلاته ككيان مخصَّص لطوائف ومذاهب فقط. هذه من ثوابت الكيان ولو اهتزّت أعمدته.

من حسن حظ اللبنانيين، أن لبنان عاصٍ على التغيير. طريق التغيير تمرّ بالفتنة. تجربة حرب السنتين (1975ـ 1977) كافية. انتحر الإصلاحيون بالطائفية ونُحروا بالاستعانة الإقليمية. درس بليغ. لبنان المعتل، أفضل من لبنان المقتتل. حكمة ذهبية. محاولات التغيير كلها، باءت بالفشل. إصلاحات الأب دوبريه ومخططات «بعثة ايرفد» دُفنت. كانت النصيحة المثلى: «أبقوا على ما أنتم عليه». اتفاق الطائف الذي أنهى الحرب، بعد اقتتال لخمسة عشر عاماً، بنتائج كارثية، مُنِعَ من التطبيق. النص كان واضحاً جداً، يفتح الطريق إلى إقامة دولة مدنية لا طائفية وحديثة. عبث واستمات الجميع في تأمين النصاب الطائفي للنظام بصيغة متنامية وشمولية. استمر النظام بحراسة ملوك الطوائف. الممالك الراهنة المتنافسة، هي وريثة الممالك التي كان صك إنشاء الكيان باسمها ومن أجلها، الطبقة النافذة في النظام، تقوم على تحالف تنافري بين مكوناتها، بشروط الاقتسام، بشرط، أن لا يقع النظام… نظام ضعيف تحرسه قوى طائفية خارقة، وتزداد قوة كلما ازداد النظام ضعفاً. أذكى المعادلات السياسية! هذا هو لبنان.

لا خوف على لبنان حاضراً ومستقبلاً. غده كحاضره، أو نسخة معدّلة عنه، أكثر شناعة لانعدام التوازن الديموغرافي. البقاء في «الطائف» الذي بات معطوباً بسبب انتقائية التطبيق، أفضل من الخروج عليه. هو ضمانة للجميع، بشرط إعادة التوازن للمحاصصة و «رفع الغبن» عن طائفة، غيِّبت إبان الوصاية السورية، والجشع المذهبي المنافس. الغبن ممنوع. اعطوا ما للطائفة للطائفة، وكفى «المؤمنين» شر التهديد الدونكيشوتي بـ: «لكم لبنانكم ولنا لبناننا». هذا مستحيل، دونَه حروب اقتلاع، لا يجرؤ عليها أحد. سوريا والعراق عبرتان مقنعتان. محكوم على اللبنانيين أن يعيشوا كيفما كان، وإنما دائماً معاً. وحدتهم مشكلة، دائمة، انفصالهم كارثة. المعادلة الفضلى، البقاء بين بين.

الخروج إلى مؤتمر تأسيسي هو محاولة ابتزاز لا غير. إذا تيسَّر عقد المؤتمر، بشروط داخلية وخارجية مناسبة، فلن ينتج أفضل من صيغة «الطائف». قد يراهن البعض على صيغة أسوأ، تطيح بما رشح عن إمكانية تحقيق دولة مدنية، ولو بعد عقود. لكن ذلك بعيد المنال.

من حُسن حظ اللبنانيين أن بلدهم آمن، بنسبة معقولة، يعود الفضل فيها لأجهزة أمنية بغطاء سياسي محترف، أمَّنته الطبقة السياسية، التي تتقن حساب المصالح. طبقة رأت ان ترحِّل خلافاتها إلى ما بعد الحدود اللبنانية، وأن تستبقي الساحة اللبنانية للمعارك الكلامية التي لا تخيف أحداً، ولا تستدرج أحداً إلى عنف داخلي. هذا جيد وحيد. كل ما عداه، يقع في خانة السيئ والأسوأ والفضيحة. ومع ذلك، فإن لبنان باقٍ على ما هو عليه.

لبنان المريض، المعتلّ والمنهك، يتمتع بنظام لا بديل عنه، ورقياً وواقعياً. هذا النظام، كان وكائن وسيكون دائماً، على صورة السلالة الطبقية الطائفية الحاكمة، ولفلسفة كيانه الخاص، كوطن لأقليات ذات انتماءات إقليمية متمادية دينياً وطائفياً ومذهبياً. وكوطن، غير قابل للاكتمال وقادر على معايشة النقصان.

من سوء حظ اللبنانيين، قدرتهم على العفو والتناسي. يرتكب النظام، بطبقته السياسية المرصوصة، آثاماً متمادية. لا أحد يحاسب أحداً. الاتهامات بالارتكاب تطال القيادات المطوبة بجماهير غفيرة، تمحضها التأييد والتثبيت. جماهير غير قابلة للنقصان لا أحد يحسب آلافاً من الخوارج على طوائفهم ومذاهبهم. هؤلاء لا وزن لهم. مستنكفون عن «الجهاد» في سبيل الوطن… النعوت التي تُطلَق على الطبقة السياسية تصل إلى حدود الاتهام بالخيانات المتبادلة، تصل إلى حدود التفريط بالسيادة، تصل إلى حدود التهتك القانوني: فساداً على الملأ وأحلافاً غبّ الطلب، يجمعها الكسب السريع من عائدات الدولة. لا يمكن تصوّر فساد مفضوح يشبه الفساد في لبنان. فساد بلا حدود. «المافيوزو» يرتدعون ذاتياً. عندنا، «صقلية» جزيرة جديرة بالاحترام، أمام الاستباحات اللبنانية للمال العام، للمؤسسات العامة، للأملاك العامة، إلى آخر طوفان الاحتلالات، ومع ذلك، لا أحد يسأل. إدمان الناس على التذمر لا يُحسَب له حساب.

من سوء حظ الحراك الذي اندلع منذ عام، أنه تحرّك ولم يحرِّك شرائح كثيرة متضرّرة من أفلاس الحلول السلطوية. لم يؤد الحراك إلى غضب بنَّاء ومستدام. الشرائح المتضررة مزغولة ومنتفعة وتابعة. مرتهنة بالولاء المسبق، على قاعدة الجاذبية المذهبية. جاذبية محببة لأتباعها. التخلّي عنها، إقامة في العراء، وخيانة للمعتقد، وخدمة للعدو الديموغرافي أو الديني.

ومع ذلك، لن يكفّ اللبنانيون عن «النق» وهم مسؤولون عن تخليد هذه الطبقة سيئة السمعة بالانتخاب المباشر. هذه السلطات، صنعتها صناديق الاقتراع.

الزمن، زمن الطوائف والمذاهب والأقوام بلا منازع. فلندعِ الأحلام جانباً. لن نصبح على وطن.