من أصعب المعضلات التي يواجهها المسؤول السياسي اللبناني خلال هذه المرحلة الجهنّمية التي تمرّ بها البلاد، هي مشاكل الناس اليومية، من صحّية ومالية وتعليمية ومعيشية، وغيرها من مقوّمات الصمود الاجتماعي. ومع كلّ زيارة يقوم بها، ومع كل طلّة إعلامية أو لقاء سياسي، تطرح عليه الاسئلة المتوقّعة والمُبرّرة ذاتها عن مستقبل الوطن والأجيال الصاعدة وعن المصير، ما يدلّ، ليس فقط على ضيق الامكانيات والقدرات، بل أيضاً على الخشية والخيبة وفقدان الثقة. ومع أنّ كلّ هذا الواقع ناتج عن خسارة الشعب لأرزاقه وودائعه وأعماله «وعرق جبينه» فإنّ كثيرين أيضاً يعنون بأسئلتهم إتّخاذهم خيار الاستسلام للقدر.
إنّ الاستسلام للقدر يحمل في طيّاته، ليس فقط قرار الهجرة أو الانتحار، بل أيضاً قرار التخلّي عن الهوية والنضال لأجل الوطن. ولأنّ الإنسان هو الأساس دائماً وأبداً، فهو المحور والهدف، وهو صاحب القرار أيضاً، ولذلك يجدر بالمسؤولين الجدّيين وغير الإنتهازيين أخذ دلالات ذلك على محمل الجدّ والالتفات إلى واقع المواطن ومعنوياته وقدرته على الصمود، تماماً كما معالجتهم للقضايا الإستراتيجية الوطنية. فما أهمّية الحفاظ على المواقع وإنجاح الخطط السياسية، إن لم نعمل على الحفاظ على المواطن، وفي لبنان بالذات الحفاظ على الإنسان اللبناني، المُتميّز بتقاليده ونوعية حياته وثقافته؟
آثار الغزو
إنّ الغزو الذي يتعرّض له الإنسان اللبناني قد أثّر بطبيعة الحال على الكثير من نوعية حياته الإجتماعية الذي إنتهجها سابقاً، وقد كسِبها خلال فترات الإستقرار الإقتصادي والمالي التي نعِم بها، والتي سمحت له بتحقيق رفاهيةٍ وتطوّر إجتماعي مهمّ إلى حدّ «البطر والغنج» أحياناً، وما حضّر الأجيال الصاعدة للتناغم مع التطوّر العملي والانتاجي العالمي. ولكن بعودةٍ سريعة إلى واقع المجتمع اللبناني ما قبل خمسين سنة، نرى أنّ معظم فئات المجتمع إنتقلت من الحياة القروية والريفية المرتبطة بالأرض والحياة الزراعية إلى ساحات المدن وجامعاتها ومؤسّساتها وشركاتها، وأثبتت قدرات عالية، وفتحت المجالات العالمية للبنان الوطن، وتبوّأت الكثير من إدارات الشركات العالمية، وشاركت في إعمار الكثير من الدول المجاورة والبعيدة. ولكن في الوقت ذاته، ومع كل هذه المُميّزات الرائعة فقد خسِرَت خصائص إمتلكتها سابقاً وطبعت شخصيتها العنيدة بجهوزيةٍ دائمة لدفع الأثمان الغالية دفاعاً عن الوطن، فالدفاع حينها كان دفاعاً عن الأرض، سبب وجودها، والإرث سبب وراثتها، والهوية سبب ثقافتها.
إن تحوّل المجتمعات نحو المدنية لا يُفقدها حبّ الوطن، ولكن يدفعها إلى تقييم مُختلف للمواطنية، فروح النضال تتحوّل من الدفاع والمعاناة حفاظاً على الأرض إلى التطبّع مع النضال لأجل المصالح والأعمال.
لم ينجح الحكم في لبنان منذ نشأة لبنان الدولة وحتى الآن، ومع كل التحوّلات السياسية الجذرية التي مرّ بها في الربط العضوي بين الإرث والمصالح، بين المجتمع القروي الذي حافظ على الارض والتاريخ والمجتمع الذي انفتح على الاعمال والحياة المدنية وفتح المجالات التطويرية للبنان الدولة. ومع فقدان الكثير من اللبنانيين مفهوم «ثمن الدفاع عن الوطن» وجدوا حياةً هنيئة وجميلة وناجحة خارجه، ولاقى البعض الآخر الانتحار، ولجأ البعض إلى الاستسلام للقدر السياسي المفروض من الغازي، صوناً واستمراراً لمصالحه. ومع كلّ ذلك، بقيت فئات تدفع الأثمان لبقاء الوطن والهوية، بالرغم من كل الضغوطات الاجتماعية والنفسية والمطلبية التي تواجهها نتيجةً لتموضعها وقرارها الذاتي.
عندما تغزو دولة كبيرة عسكرياً دولة أصغر منها، تقوم القوى العسكرية المُدافعة بواجباتها الوطنية بوجه الاحتلال وتُنظّم قواها الشعبية لتُنشئ مقاومةً ضدّ التطبيع مع الغازي، ويستشهد المواطنون ويتعرّض الكثيرون للعذابات في معاقل المحتلّ، وهذا النوع من النضالات مزروع في عقول وضمير الشعوب، والانسانية جمعاء، لأنّه نضال مرتبط بالحياة البشرية وبغريزة البقاء، ولكن عندما يعمل المحتلّ على تأمين استمرار الحياة المقبولة لأهل البلاد الواقعة تحت إحتلاله مقابل الاستسلام لادارته، فهنا تتبيّن أصول ونوعيات الشعوب.
الإستبسال في المقاومة
ففي حين تقبل بعض الفئات بالتعامل والتعاون مع المحتلّ على حساب الحرّيات الوطنية والاستقلال وتحت حجّة الشطارة والعقلانية، تذهب شعوب أخرى للاستبسال في المقاومة لدفع المحتلّ خارج اراضي الوطن. هذا يصحّ مع حالات الغزو العسكري والتهديد بالحياة والاحتلالات، ولكن عندما يتعلّق الأمر بمشاريع تغيير الهوية، بالتسلّل الخبيث من خلال الثقافات وفي وجدان فئات المجتمع، فعندها تكثر حالات القبول بالذمّية المجتمعية والسياسية والثقافية والدينية، وينخدع البعض بالأوهام التي يُغدقها المشروع الجديد على المتعاونين، ربحاً للوقت لاستكمال مشروعه على حساب الوطن الاصيل. وهذا ما يتعرّض له لبنان منذ وقت ليس بقصير، ولذلك فإنّ ثمن الدفاع عن الوطن كبير جداً، لأنّ التهديد له يأتي من الداخل، وقد استطاع استمالة بعض فئاته وتهديد فئاتٍ أخرى بمصالحهم وأرزاقهم وحياتهم الرغيدة، ونجح بإقناع البعض بالتسويات التي تسمح لهم بالاستمرار بأعمالهم على حساب الهوية.
هذا من جهة. أمّا من جهة أخرى، ففي حين لجأ كثيرون، من اللبنانيين المتفوّقين في اختصاصاتهم وأعمالهم إلى مغادرة البلاد والتخلّي عن الوطن، إنخدع البعض الآخر بأوهام المشروع التغييري، وما نراه من شواهد صادمة للإنسانية في ايران ومن ممارسات الأجهزة الأمنية بحقّ المواطنين الايرانيين يُنذر كلّ متعاون مع التغيير بمستقبلٍ أسود وقاتم لحظة انقلاب مُشغّليه عليه. إنّ الشعب الايراني الذي انتفض يوماً على الظلم وانعدام العدالة الاجتماعية، ناصر الثورة الاسلامية حينها، لكنّها أدخلته إلى العيش تحت حكم القمع والتخلّف والاجرام، وعندما اكتشف الحقيقة، حقيقة الخدعة، ساوم للإبقاء على حياته، فرمى بكامل الظلم والمساوئ على الأجيال الحالية التي تدفع ثمن استسلام أبائها وأجدادها ، «من يتخلّى عن الكرامة والحرّية لأجل الحفاظ على الحياة، يفقد الكرامة والحرّيات والحياة ايضاً».
إنّ التحلّي بالشجاعة الكافية للدفاع عن الوطن ركن أساسي من أركان استمرارية الأوطان تترافق مع الشفافية والرؤية والحرص على المصلحة العامة والقدرات العلمية، وهذه الصفة يجب أن لا تنحصر بفئاتٍ معينة من المجتمع، بل من المهمّ أن تكون صفة عامة لأبناء الوطن، مهما علا شأنهم الاجتماعي وازدهرت شؤونهم ومصالحهم وحساباتهم، فلا يجب أن تسبّب عائقاً امام استعدادهم وجهوزيتهم لدفع الاثمان للدفاع عن الوطن، ومن يتعمّق بخطورة الدخول في التسويات مع المحتلّ والغازي يكتشف من دروس التاريخ بأنّ الغازي يُصادر دائماً حرّية القرار ليضمن لاحقاً حصوله على كلّ المقوّمات الوطنية.
ولأنّ في لبنان فئة مستعدّة دائماً للدفاع عن الوطن، أرضاً وإرثاً وحضارةً وأرزاقاً وأعمالاً ومرافئ، وهذا ما أثبتته التجارب عندما كان الغازي خارجياً، فإنّها، مع تحوّل التهديد داخلياً، أصبحت اكثر تمسّكاً بالشجاعة لدفع الاثمان دفاعاً عن الوطن.
(*) عضو تكتّل «الجمهورية القويّة»