لولا أزمة النفايات لكانت الوحدة الوطنية مصونة. هذه الأزمة، وإن لم تُستعمل فيها المدافع، كشفت واقع البلاد كما هو: تجمعات مناطقية ومذهبية وطائفية أشبه بكيانات متراصّة، ليس فقط في الشأن السياسي بل في الانتماءات الأولية للأفراد والجماعات، وهي سابقة للدولة والوطن. القوى السياسية عاجزة، على رغم سعيها لتلافي الفضيحة بما لها من «مَونة» على مناصريها يبدو أنها معطلة الآن. ولم يترك الوزير أكرم شهيب، مدعوماً من الحكومة ورئيسها، باباً إلا وطرقه، وغالباً ما كان العذر أقبح من ذنب.
حراك شعبي في بيروت يتجاوز الانتماءات الضيقة يقابله حراك شعبي مناقض في المناطق، يُظهر عمق الهوة بين كلام الناس وأفعالها في الوطن الواحد. وإذا سلّمنا، وعن حق، أن ثقة الناس بالدولة بلغت درجات دنيا، فلماذا يمنح الناس ثقتهم بالدولة بحسب مصدر النفايات، بمعنى أن نفايات مناطق معيّنة يجوز طمرها برعاية الدولة ونفايات مناطق أخرى تُرفض؟ «الفرز من المصدر» بات للأسف مناطقياً وطائفياً.
ملف النفايات «طالعة ريحتو» منذ سنوات، ومصدر الروائح محاصصة موصوفة في الفساد والإفساد، إلى حدّ أن الكلام عن الصندوق الأسود لم يعد مستوراً. والمقلق هنا أن المحاصصة باتت وطنية، بينما الخطاب السياسي المتداول ينادي باعتماد لبنان دائرة انتخابية واحدة ويدعو إلى إلغاء الطائفية السياسية. بكلام آخر، مركزية في السياسة ولا مركزية في النفايات. وقد يصل البعض إلى حدّ إعلان الانتفاضة رفضاً لاختيار مدير فرع في الجامعة اللبنانية (الوطنية) عن طريق الانتخاب وبحسب القانون بسبب انتمائه الديني أو لأي سبب آخر. إنه قتل على الهوية في زمن السلم وفي وضح النهار. وحتى الجيش، على رغم صفة الوطني التي تلازمه وهو بغنى عنها، لم يَسلَم من شظايا الاحتقان المذهبي.
أما العيش المشترك فجاء سقوطه فاضحاً في كلام صدر بموضوع نفايات المتن وكسروان. نفايات يرفضها أهل عكار بسبب مشكلة نقلها عبر بلداتهم، بينما مرور طوابير النفايات على الطريق الدولية في مناطق هي امتداد لبيروت جائز بنظر البعض. الحلّ التشاركي الذي رفع لواءه المعنيون سقط، خصوصاً في المتن وكسروان، وهما من أكثر مناطق لبنان اكتظاظاً بالسكان بعد العاصمة، وحيث يستحيل إيجاد مساحات واسعة في الساحل والوسط لطمر النفايات بعيداً من المناطق السكنية، خلافاً لمناطق أخرى.
أبناء وسكان المتن وكسروان سبق أن دفعوا ضريبة المكبّات العشوائية لا من النفايات المنزلية فحسب بل من النفايات السامة التي أُدخلت إلى لبنان أثناء الحرب ولاحقاً في التسعينيات بدعم من جهات سياسية معروفة. جيران مكبّ برج حمود لا تخونهم الذاكرة، ولم ينسَ أبناء كسروان من أعالي الجبال إلى الساحل أن براميل السموم دُفنت فوق المياه الجوفية. وعلى سيرة المياه، فإن مياه الشفة التي تصل إلى بيروت وضواحيها مصدرها أعالي المتن وكسروان وتخزّنها الطبيعة منذ آلاف السنين في وادي جعيتا. ولا بد من الإشارة إلى أن الواردات من الضرائب والرسوم التي تجبيها الدولة من المتن وكسروان تفوق بأضعاف الواردات من أقضية لبنان ومحافظاته باستثناء بيروت. فلتُفتح دفاتر الحسابات كلها باسم التشارك الوطني في النفايات وفي غيرها من الملفات.
هذا ما لا يجب أن نصل إليه، إلا أن الاستفزاز مرفوض وكذلك التلطّي وراء شعارات لغايات معيبة. يبدو أن كل شيء وطني في لبنان ما عدا النفايات. فلنعتبر أن ما صدر من كلام منفّر فشة خلق ظرفية، في زمن السيوف والمدافع. لكن إذا كان الكلام من فضة فالسكوت عن الخطأ ليس من ذهب بل هروب من مسؤولية التصدي لأزمة كشفت مطامر لم تعد صالحة لِسَتر عورات الدولة والمجتمع والوطن.