عندما يتحدّث أحدهم عن انتصار للنظام السوري في حربه على السوريين، وعن عودة الحياة إلى طبيعتها في هذا البلد قريباً، أقلّ ما يمكن قوله عندئذٍ إن الأزمة السورية لا تزال في بدايتها. لم ينتصر النظام السوري على السوريين بعد. درب انتهاء الحرب على الشعب السوري لا يزال طويلاً، بل طويلاً جدّاً. كلّ ما فعله النظام حتّى الآن، يتمثّل في نجاحه بإدخال سوريا في دوامة لا نهاية قريبة لها بعدما تبيّن أنّ ليس لديه أي حلول أو مخارج سياسية. اللهمّ إلّا إذا كان تغيير طبيعة السكان والمناطق السورية هدفاً بحدّ ذاته، وصولاً إلى اعتبار بشّار الأسد في مؤتمر لوزارة الخارجية السورية، انعقد قبل أيّام، أن إنجازاً تحقّق وأنّ المجتمع السوري «أكثر صحّة وتجانساً».
ليس معروفاً ما هو مفهوم «التجانس» من وجهة نظر الأسد الإبن. هل هو التخلص من السوريين الذين لا يعجبونه والذين ثاروا قبل ست سنوات بحثاً عن بعض من كرامة؟ هل هو رضوخ السوريين لآلة القمع التي يمتلكها، وهي آلة قمع من صنع إيراني وروسي؟ هل «التجانس» يتمثّل في التخلص من نصف الشعب السوري عن طريق القتل والتفجير وتدمير المدن الكبرى وتطويع دمشق واللاذقية وتغيير تركيبة المدينتين والانتهاء إلى الأبد من الأكثرية السنّية في سوريا إرضاء لإيران ومشروعها التوسّعي؟
لم ينتهِ شيء على علاقة بالأحداث الداخلية في سوريا بعد. ربّما سوريا التي عرفناها انتهت، تماماً
كما انتهى العراق. ليست الصور التي توزع في أنحاء العالم عن ليال «صاخبة» في دمشق أو اللاذقية سوى غطاء للجريمة الكبرى التي ارتكبت في حقّ بلد صار تحت خمس وصايات واحتلالات، حتّى لا نقول أكثر. تعمل كلّ قوّة من القوى الخمس، التي تتحكّم كلّ منها بجزء من الأراضي السورية، على ترسيخ نفوذها.
لم يعد سرّاً أن تركيا تسيطر، على حد تعبير الرئيس رجب طيب أردوغان، على ألفي كيلومتر مربّع من الأراضي السورية. معروف جيّداً أن بشّار الأسد كان ينوي الذهاب إلى حلب أواخر العام الماضي لإلقاء «خطاب الانتصار»، لكنّ الجانب الروسي منعه من ذلك إرضاء للتركي الذي شارك في عملية إخراج مقاتلي المعارضة من أحياء معيّنة في المدينة، تمهيداً لتسليمها إلى قوات موالية للنظام تعمل بإشراف موسكو.
لم يعد سرّاً أيضاً أنّ لأميركا قواعد عدّة في سوريا، خصوصاً في مناطق، مثل الحسكة، تحوي ثروات البلد، أي الزراعة والمياه والنفط والغاز. ليس ما يشير إلى أن الأميركيين ينوون الخروج من سوريا في المدى المنظور. قد يخرجون في مرحلة يجدون فيها أن مصالح معيّنة تهمّهم تأمنت، وهي مصالح مرتبطة، إلى حدّ كبير، بالأكراد ومستقبل هؤلاء على خريطة المنطقة.
ليس سرّاً أن مناطق سورية تقع تحت النفوذ الروسي المباشر. لا يقتصر الأمر على الساحل فقط وعلى قاعدة حميميم، قرب اللاذقية، التي لا يستطيع رئيس النظام زيارتها إلّا ضمن شروط يحددها المسؤولون الروس عن القاعدة الجويّة وأمنها. كذلك، أنّ روسيا موجودة في الجنوب السوري وذلك في إطار تفاهم مع الولايات المتحدة والأردن. لكنّ الأهمّ من ذلك كلّه التنسيق العميق بين روسيا وإسرائيل والذي يعني قبل كلّ شيء توفير الضمانات المطلوبة إسرائيلياً. لعلّ أفضل تعبير عن عمق هذا التنسيق اللقاءات الدورية بين رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو والرئيس فلاديمير بوتين، إضافة بالطبع إلى التفاهم على أن إسرائيل تمتلك حرّية شن الغارات الجوية في الجنوب السوري متى وجدت ذلك مناسباً.
بعد روسيا وأميركا وتركيا، وربّما قبل ذلك، تأتي إيران التي تحاول ربط الأراضي السورية بالأراضي اللبنانية التي يسيطر عليها «حزب الله» والتي تبحث عن موطئ قدم دائم في دمشق. إيران موجودة في سوريا مباشرة وعبر ميليشياتها المذهبية اللبنانية والعراقية، لكنّ عليها أن تأخذ في الاعتبار أن ثمّة مناطق صارت محظورة عليها لأسباب إسرائيلية طبعاً. وهذا يجعلها مصرّة أكثر من ايّ وقت على أن تكون، عبر «حزب الله» في مناطق سورية ولبنانية معيّنة تشكل تعويضاً عن منعها من الاقتراب أكثر من الجولان المحتل الذي طوت إسرائيل صفحته.
إذا كان من «تجانس» في سوريا، فهو بين الاحتلالات التي تعاني منها نتيجة وجود نظام لم يعرف يوماً أن الهروب إلى الأمام لا يحلّ أي مشكلة من مشاكله، بما في ذلك الأزمة العميقة التي يعاني منها على مستويين. المستوى الأوّل أنه نظام طائفي قبل أي شيء، والمستوى الآخر أنه لم يمتلك أيّ شرعية من أيّ نوع في أيّ يوم من الأيام. كيف يمكن أن يكون النظام شرعياً وهو وليد سلسلة من الانقلابات العسكرية ابتداء من العام 1963.
بعد ست سنوات ونصف السنة على اندلاع الثورة السورية، لا بدّ من الاعتراف بعظمة الشعب السوري، الذي يقاوم النظام المدعوم من خمسة احتلالات فضلاً عن تلك التنظيمات الإرهابية التي ولدت من رحم سجون النظام. على رأس هذه التنظيمات يأتي «داعش» الذي تكشّف بوضوح مدى ارتباطه بالنظام السوري وبأدوات إيران في أعقاب العملية التي يشنها الجيش اللبناني في المنطقة الجردية الشرقية المحاذية للأراضي السورية. يقاتل «داعش» الجيش اللبناني، الذي سقط له شهداء، ويستسلم بكلّ راحة بال لقوات النظام السوري والميليشيات المذهبية وكأنّ الموضوع كلّه سيناريو رتبت فصوله سلفاً.
ليست المرّة الأولى ولا الأخيرة التي يتحدّث فيها بشّار الأسد بطريقة تكشف كم أنه معزول عمّا يدور في سوريا والمنطقة والعالم. هناك خمسة احتلالات تدعم نظامه الذي سقط منذ فترة طويلة. تدعمه الاحتلالات الخمسة بهدف واحد هو الانتهاء من سوريا. هذه هي حقيقة «التجانس» السوري لا أكثر ولا أقل…