Site icon IMLebanon

شرَفُ الإستقالة

 

سواءٌ… «عَرفَ الرئيس سعد الحريري ما يُحاكُ في الخفاء لاستهْدافِ حياته»، أو لمْ يعرف، فهذا لا يعني – وهو شهيدٌ بالوراثة – أنّ أشباح الإغتيال لا تطارده في حَلِّهِ وتَرْحالِهِ، وإنه لم يكنْ حيثما توجَّهَ كَمَنْ يسير بين شظايا القذائف.

وليس من الضروري أن يتلقَّى الحريري رسائل التهديد، «لأنّ مَنْ لم يمُتْ فقد رأى الذي مات»، ورأى الذي كان في لبنان من اغتيالات استهدفَتْ رئيسَيْ جمهورية، ورئيسَيْ حكومة، وعدداً من الوزراء والنواب والسياسيين والعسكريين ورجالَ صحافةٍ ودين.

والفاعل هوَ هوَ، ضميرٌ مستَتِرٌ تقديرهُ هوَ، ومجهولٌ مستتر بلا ضمير، ولم يصدُفْ أن تمكَّنتِ الأجهزة الأمنية الرسمية من التقاط رسائل التحذير قبل الإغتيالات أو بعدها، لأنّ الأشباح لا تكتب الرسائل الخطية بل الرسائل المفخَّخة، ولأنَّ رجال الأمن لا يقرأون الرسائل إلّا بعد الإشعار بالوصول.

وسواءٌ، أعلن الرئيس الحريري إستقالته من لبنان أو من السعودية، فهو كان في لبنان رئيساً مستقيلاً لحكومة مستقيلة، الحكمُ على الأرض ليس لها، والقرارات ليست في السرايا لها، بقدر ما كانت لمن يحكمون بالسرايا فوق السرايات.

وسواءٌ، كان الرئيس الحريري معتقلاً أو محتجزاً في الرياض، فهو لم يكن طليقاً في بيروت، بقدر ما كانت الأصفاد تكبّل معصميه، بل لعلّ وجوده في الرياض يجعله أقرب الى مكّة المكرّمة والكعبة الشريفة ومناسك الحجّ، حيث يستطيع هناك أن يرشق الشيطان بالحجر.

أيّاً تكن الأسباب الضاغطة والمسبِّبات التي دفعت الحريري الى اتخاذ هذا القرار الصادم بالإستقالة، فلا ينكر عليه أحدٌ أنه خلال المدّة الوجيزة التي
تولى فيها رئاسة الحكومة قد اتخذ مواقف وطنية جريئة ارتفع بها الى منزلة رجل الدولة، فهو لم يهبط الى مستوى الشارع الثائر الصاخب، بل راح يرفع الشارع الى مستواه، وهو لم يغازل الإسلام السني المتطرف بل استنفر في مواجهته الإسلام السنيّ المعتدل، وكان لذلك فضلٌ في كبْحِ جُماح التشنّج السنيّ – الشيعي في لبنان، والذي كان في غير مكان غارقاً في بُـرك الدم.

واعترافاً بالحق لأصحاب الحق نقول: إن الرئيس الحريري كانت له اليد الراجحة في حياكة خيوط الحرير حول الفراغ الرئاسي في لبنان كما في انتخاب العماد ميشال عون رئيساً للجمهورية، فيما كان اللبنانيون قبل المبادرة الحريرية يتماوجون في أرجوحة الفراغ وينامون على فراشٍ من الإبَر.

لا نريد أن نتصور الفرضية الذهنية السائدة بأن رئيس حكومة لبنان مخطوفٌ بأمرٍ مَلَكي أو هو أسيرُ حربٍ في السعودية لأن السعودية تعتبره رئيس «حكومة إعلان الحرب» في لبنان.

ولا نريد أن نتصور في المقابل أن رئاسة الحريري كانت ضرورة حتمية لمواجهة التطرف المستشري مذهبياً والمستفحل عسكرياً، وحين يتقهقر هذا التطرف تنتفي هذه الضرورة.

أو أنه كان أسيرَ معادلةٍ تتناول مقايضة حياته بالإستقرار الأمني، مثلما كانت المقايضة في عهد الوصاية السوربة بين الحرية والأمن، والتي تصدّى لها في حينه البطريرك نصرالله صفير بالقول: لا نريد الأمن على حساب الحرية.

المهمّ الآن ألَّا نستغرق في البكاء على الأطلال في الصحراء، فنطمر رؤوسنا في رمالها، ويلهينا الجدل البيزنطي حيال خلفية استقالة الرئيس الحريري عن التبصُّر بأبعاد هذه الإستقالة التي تطرح مشروع إصلاح وتغيير من نوع آخر يتناول المفاهيم الوطنية لمعنى الدولة والسيادة والنظام والدستور.

فإنْ لم يمتلك القياديون والمسؤولون اللبنانيون شرف مواجهة هذا التحدّي التاريخي لإنقاذ وجه لبنان التاريخي، فليكن عندهم على الأقـل شرف الإستقالة، حتى ولو كانت من الرياض أو من طهران.