IMLebanon

«الهرج والمرج» دوامة تمنع التناول الجدي للقضايا داخلياً وخارجياً

تنافست، بل تزاحمت، بل اختلطت، في الأيام الأخيرة، مشهدية «الكرّ والفرّ» على مستوى الإرهاب ومكافحة الإرهاب، مع مشهدية «الهرج والمرج» على مستوى متلازمة الهلع والصخب والهزل، من أمام مبنى الكابيتول حتى الطائرة المصرية في مطار لارنكا. 

لكأن عالمنا صار أكثر فأكثر عرضة للمزيد من التداخل بين كل ما يتصل بمناخات «الكرّ والفرّ» وبين نوبات «الهرج والمرج». 

كذلك وطننا. الكرّ والفرّ بين «داعش« و«النصرة« على تخومه يؤدي وظيفة النوبة في الهرج والمرج الداخليين. وهذا الهرج يشمل موضوعات ملتهبة شتى، بعضها يوحي بأنه أقرب الى الهجمات والهجمات المرتدة، أي الى أجواء الكر والفرّ، في حين تراه يؤدي إيقاعه النافر، أو المبتور، وسط فوضى الإيقاعات. نفايات ومطامر بعد هرج ومرج الترحيل والشركات الوهمية، وقمح مسرطن، وانترنت موازٍ، وصحافة ممانعة متصابية «غنوجة» تبحث عن دفء، ولا ننسى عودة الشيخ محمد يزبك لقواعد الاشتباك مع «المارونية السياسية». هذا ويبلغ الهرج والمرج أقصاه في كل ما يتصل بالديبلوماسية اللبنانية في عهد الوزير جبران باسيل. 

منسوب الهرج والمرج لا ينفك يرتفع، وهو على ما يبدو الأسلوب المتفشي حالياً لملء الشغور. 

وإذا كان بعض الناشطين المدنيين لا يزال يمنّي النفس بإحياء سراب «الكر والفر» المواطنيّ، على خلفية قضايا مطلبية، أو على خلفية «تهيؤات» انتخابية بلدية، يبقى الأكثر جدية في كل ما يهدر من حولنا هو موضوع العلاقات السياسية غير الصحية بين النخب ذات الحيثية في طوائفها، وبشكل أو بآخر، العلاقات المجتمعية غير الصحية بين الجماعات الأهلية اللبنانية. هذه لم تصل الى حالة «الكرّ والفرّ»، بل ولا تزال خجولة «الهرج والمرج» قياساً على النوبات الأخرى، لكن عدم أخذ تنامي خطورتها في الآونة الأخيرة، سيزيدها خطورة، بالتقاطع مع نطاق ملتهب آخر، يتصل بموضوع اللاجئين السوريين: فإذا كانت شمّاعة رفض التوطين التي أثارها باسيل مؤخراً مفتعلة بالكامل، إلا أن موضوع اللاجئين، والإشكاليات التي يطرحها على الاجتماع اللبناني وعلاقة الجماعات اللبنانية في ما بينها والأمن القومي بشكل عام، هي إشكاليات واقعية، وغير وهمية. 

بالتوازي، كل يوم إضافي على الشغور الرئاسي هو يوم يزيد وضوحاً مشكلة العلاقات غير السوية بين الجماعات اللبنانية، والمقترحات غير المطمئنة أيضاً لمعالجة هذه العلاقات. هناك مشكلة ليس بالمستطاع مداواتها بـ»يا عيني يا روحي»، وليس بالمستطاع معالجتها أيضاً بدراما «المظلوميات»، فأسهل شيء في هذا الوجود التظلّم، وتلفيق سردية مؤاتية له، في مقابل عدم الإنصات لمظلومية الغير. 

ذلك أن الحقوق السياسية لا يسعها إلا أن تكون فردية. الحقوق الثقافية وحدها جماعية. بمعنى حق جماعة لسانية في التكلم بلغتها، وحق جماعة دينية في إحياء طقوسها وشعائرها وعيش ذاكرتها، وكل مترتبات التعبير عن الهوية وحفظها وإعادة انتاجها (طبعاً يظل الإشكال المحيّر والمتصل في الحق الثقافي في الحفاظ على المكان مدموغاً بصبغة الجماعة الأهلية والى أي حد). 

أما الحقوق السياسية فهي فردية. المفارقة أننا اليوم، وفي ما يُطرح تحت عنوان «حقوق المسيحيين» أمام طرح لا يشتكي من غبن في الحقوق الثقافية، وإنما من غبن في الحقوق السياسية للجماعة المحددة ثقافياً، وهذه مفارقة لا يمكن المكابرة عليها، كما لا يمكن الاكتفاء باكتشاف التناقض داخلها لدفعها جانباً. 

وجه المفارقة الأساسي، هو طرح مسألة رئاسة الجمهورية ليس فقط كـ»حق سياسي»، بل أيضاً كـ»حق ثقافي»، كإرث أو باتريموان. طبعاً، هذا لا ينسجم مع أساس الفكرة الدستورية، لكنه يكشف في الوقت نفسه عن نقص مريع في شروط العقد الاجتماعي يبرّره بمعنى من المعاني. هذا الافتقاد للعقد الاجتماعي يعاني منه المسيحيون أكثر من سواهم، هذا صحيح، لكن طرح «الحقوق» من دون خارطة طريق مقترحة لإعادة تشكيل العقد الاجتماعي ليس بمسار يمكن الاطمئنان، سلفاً، اليه. لكن الأهم، في هذا المجال أو في كل مجال، هو مغادرة منطق «كل شيء أو لا شيء»، وهذا يفترض إبقاء مساحة محصنة من الهرج والمرج. 

الحقوق السياسية فردية أولاً، والحقوق الثقافية جماعية أولاً، والتنبيه الى ذلك أساسي لإصلاح العلاقة بين الجماعات اللبنانية، وإخراجها من دوامة الهرج والمرج، من دون العودة بها الى دينامية الكر والفر!