Site icon IMLebanon

آمال معقودة على استخراج النفط والغاز لدعم الاقتصاد

 

مع تفاقم الوضع الإقتصادي، بدأت الأنظار تتجه إلى الثروة النفطية التي تقبع تحت سطح البحر مُقابل الشواطئ اللبنانية. وآخر المُستجدّات ما صرحت به وزيرة الطاقة والمياه ندى البستاني على حسابها على توتير بالقول: «بعد اكتمال وصول الشحنة الأولى من المعدات المخصصة لعمليات الحفر الى مرفأ بيروت اليوم يدخل لبنان مرحلة العد العكسي لحفر البئر (النفطي) الإستكشافي الأول في الرقعة رقم 4».

 

الثروة النفطية في لبنان واعدة جدًا وقد قدّرناها بأكثر من 250 مليار دولار أميركي صافي للدوّلة على أسعار النفط والغاز الحالية (WTI،ICE ) مع إحتمال 95% ويُمكن أن تصل إلى أكثر من 1100 مليار دولار أميركي (إذا ما كانت نتائج الإستكشاف تفوق التوقّعات) مع إحتمال 5%! هذا الرقم الهائل يُسيل اللعاب ويعد بمستقبل واعد إذا ما إستطاعت الحكومة (أو الحكومات اللاحقة) إدارة هذا الملف بطريقة سليمة وعلمية بعيدًا عن المُحاصصة الطائفية والحزبية.

 

المُفتاح الأساسي لإدارة الملفّ النفطي هو «الصندوق السيادي» الذي نصّ عليه قانون «الموارد البترولية في المياه البحرية» (قانون رقم 132 تاريخ 24/8/2010) في الفقرة 2 من المادّة 3: «تودع العائدات المحصلة من قبل الدولة الناتجة عن الأنشطة البترولية أو الحقوق البترولية في صندوق سيادي». هذا الصندوق هو ذات أهمّية إقتصادية ومالية مُطّلقة، ولعل الأسطر اللاحقة ستُظّهر أن الأهمّية الإقتصادية لهذا الصندوق تفوق أهمّيتة المالية نظرًا إلى الفوائد الكثيرة التي يُمكن لهذا الصندوق أن يُقدّمها للإقتصاد اللبناني.

 

المُشكلة الأساسية التي تواجه هذا الصندوق تتمثّل بهيكلية هذا الصندوق وإدارته التي (ومن دون أدّنى شكّ) سيتصارع عليها الأفرقاء السياسيون بشكل متصاعد مع بدء ظهور التأكيدات عن مُحتوى الآبار التي سيتمّ إكتشافها. والمخاوف الأساسية المطروحة (من وجهة نظر الإقتصاد اللبناني) هو أن تعمدّ السلطة السياسية إلى إنشاء صندوق سيادي «مُشوّه» و«مُفرغ» من مضمونه مما سيؤدّي إلى خسائر إقتصادية كبيرة.

 

على صعيد الشفافية، تمّ إقرار قانون «دعم الشفافية في قطاع البترول» (قانون رقم 84 تاريخ 10/10/2018) والذي يهدف إلى دعم الشفافية في هذا القطاع من خلال عدّد من القيود التي تمّ فرضها. هدف هذا المقال، ليس الدخول في جدل الفساد وقدرته على المناورة وتخطّي القوانين، لذا لن نتطّرق إلى هذا الموضوع.

 

} روحية الصندوق السيادي }

 

يهدف الصندوق السيادي (مملوك من الدولة) إلى خلق الإستقرار الإقتصادي والمالي في بلد مُعيّن وفي نفس الوقت إدخار الأموال للأجيال المقبلة وذلك وفقًا لمبادئ سانتياغو.

 

التجارب التي رافقت إنشاء أوّل صناديق إستثمارية في العالم أظهرت أنّ هناك مخاطر تواكب عمل الصندوق وعلى رأسها الخوف على قيمة الأصول، نقص في الشفافيّة، الأخلاقيات في الاستثمارات، مشاكل جيوسياسية#0236 لكن مع الوقت تمّ تفادي كلّ هذه المخاطر عبر وضع قيود على إدارة الصندوق. من هنا تأتي أهمية مبادئ سانتياغو التي تحوي على مجموعة من الإجراءات (أفضل الممارسات) التي تخص الصناديق السيادية والتي قام صندوق النقد الدولي بوضعها في العام 2008 ومنها تحليل مُعمّق لمداخيل الدولة بهدف فهمها بشكل جيد يسمح بفهم الأهداف الإستثمارية وإدارة المخاطر بشكل أفضل، وضع السياسات وإدارة القضايا التشغيلية والمؤسسية التي تواجه الصناديق السيادية، وتطبيق أفضل الممارسات في معايير المحاسبة والحوكمة والأخلاقيات…

 

من البديهي القول أنه من الضروري تكييف (customize)كل صندوق سيادي مع الوضع الخاص للبلد الذي تم إنشاؤه فيه، ولكن يُمكن تعزيز مبدأ هذا الخلق وجعله معياراً يفرض قيوداً (طوعية) على اللبلد المعني. ولكن الشق الذي لا يقلّ أهمّية عن القيود الطوعية، يتعلق بالإسهام المحتمل لصناديق الثروة السيادية في تمويل التنمية بطريقة كبيرة وهذا ما يشترط وجدود آفاق حقيقية وواضحة للتنمية الاقتصادية المستدامة. وهذا، بحسب صندوق النقد الدولي، يفرض على البلد المعني إظهار قدرة على قيادة هذا التطور عبر إعتماد معايير دولية وعلى رأسها الحوكمة الرشيدة.

 

} إيجابيات الصندوق السيادي }

 

يُمكن إعتبار الصندوق السيادي للدولة كصندوق يحوي أصولاً بالعملات الأجنبية يتمّ إستثمارها في الأسواق المالية بهدف الإستفادة من مدخول ولكن في نفس الوقت إدخار أموال للأجيال المُستقبلية (نظرة ضيقة للصندوق السيادي). والمُلفت أن أول من أنشأ صندوقاً سيادياً في العالم كانت دولة الكويت في العام 1935 وحذت العديد من الدول حذو الكويت لاحقًا ليُصبح عدد الصناديق السيادية في العالم اليوم بحدود الـ 56 صندوقاً.

 

في الواقع إزداد الإهتمام بالصناديق السيادية نظراً لما لها من تداعيات إيجابية على الصعيد الإقتصادي، المالي، الإجتماعي وحتى على الصعيد الجيو إستراتيجي للدوّلة صاحبة الصندوق. ويُظهر التاريخ أن بعض الدوّل التي أنشأت صناديق سيادية، أمّنت مُستقبلها ومُستقبل أجيالها المقبلة وضمنت تطوّرها الاقتصادي والإجتماعي.

 

بعض الإستراتيجيات التي إعتمدتها الدول تنص على إدخال كل مداخيلها من الثروات الطبيعية (نفط، غاز، معادن، مياه#0236)، من الهبات والفائض في الموازنة في الصندوق السيادي. وهذا الأمر سمحّ بتعظيم سريع لحجم هذا الصندوق إلى درجة تهدف بعض الدوّل (قطر مثلاً) إلى تمّويل ميزانيتها بالكامل من عائدات الصندوق السيادي. أي بمعنى أخر لا ضرورة بعد هذه اللحظة من فرض أية ضرائب أو رسوم على المواطن!

 

الطريقة الأكثر إعتمادًا في خلق الصناديق، تنصّ على إنشائه بقانون من قبل مجلس النواب، ويتمّ إدارته من قبل مجّلس يضمّ أعضاء من القطاع العام (مثلاً وزير المال، وزير الإقتصاد، حاكم المصرف المركزي…) بالإضافة إلى أعضاء من القطاع الخاص مشهود لهم بالكفاءة الأكاديمية و/أو الخبرة العملية. مُهمّة هذا المجلس وضع الخطوط العريضة لإدارة هذا الصندوق مثلًا نوع الإستثمارات، نسبة العملات في الصندوق، نسبة السيولة، العائدات الهدف، مستوى المخاطر، تنويع الإستثمارات جغرافيًا وقطاعيًا… ويقوم أحد المصارف الإستثمارية (واحد أو أكثر) بإدارته الفعلية وفقًا للقواعد التي وضعها مجلس الإدارة.

 

الشرط الأساسي في الصندوق السيادي هو عدم إستخدام رأس المال تحت أي عذرٍ كان. فقط يُمكن للخزينة الإستفادة من عائدات إستثمار هذا الصندوق وذلك لسدّ الدين العام، الإستثمار في القطاعات الإنتاجية، البنية التحتية…

 

إيجابيات الصندوق السيادي عديدة وتمّ إثباتها علمياً من خلال العديد من الدراسات التي وضعها البنك الدولي وشركات دراسات (مثلا PWC) ويُمكن تقسيم هذه الإيجابيات إلى إيجابيات مالية، إقتصادية، إجتماعية وحتى إدارية:

 

ماليًا، يسمح الصندوق السيادي بتخفيف كلفة الإقتراض على الخزينة العامّة من منطلق أن همّ المُستثمرين في سندات الخزينة ينصبّ على إحتمال تخلّف الدولة عن دفع المُستحقات وهذا ما يُحدّد سعر الفائدة التي تطلبها الأسواق. لذا يأتي الصندوق السيادي ليزيد من عامل الثقة ويلعب دور الضمانة التي تُخفّف من سعر الفائدة على السندات وبالتالي خدّمة الدين العام.

 

إقتصاديًا: وجود الصندوق السيادي يحمي الإقتصاد من التضخّم (مرض السرطان بالنسبة للإقتصاد). فدخول العملات الأجنبية إلى الاقتصاد الوطني والناتج عن الصادرات النفطية والغازية، يرفع من التضخم بحكم زيادة الإستهلاك المحلّي الناتج عن هذه الأموال، ويزيد من الودائع في المصارف التجارية مما يدفع هذه الأخيرة إلى زيادة عرضها من القروض وبالتالي تُشكّل ضغطاً على العملة الوطنية. لكن الصندوق السيادي يسمح من خلال آلية بسيطة في تخفيف تدفق صافي الأموال بالعملات الأجنبية الى الاقتصاد الوطني عبر الإستثمار في إقتصادات خارجية وهذا ما يُخفف من وطأة دخول الأموال بالعملات الأجنبية وبالتالي يلجم التضخم. هذا الإستثمار في الإقتصادات الخارجية يسمح أيضًا بحلّ مُشكلة المرض الهولندي الذي يضرب الإقتصادات التي تُصدّر النفط والغاز والناتج عن تقوية العملة الوطنية على حساب الصادرات الصناعية التي تفقد تنافسيّتها بسبب قوة العملة الوطنية وبسبب إرتفاع كلفة الإنتاج الناتجة عن التضخّم.

 

ولا يُمكن نسيان التداعيات الإيجابية المباشرة على القطاعات الإنتاجية (صناعة وزراعة) من خلال إستثمار عائدات الصندوق فيها مما يقوّي الماكينة الإنتاجية ويزيد من صادراتها. وإذا ما ترافق ضخ هذه العائدات في الاقتصاد مع خطّة إقتصادية تسمح بتنويع الماكينة الإقتصادية وتوزيعها بشكل عادل على كافة الأراضي اللبنانية، فإنّ الناتج المحلّي الإجمالي سينمو بشكل كبير كنتيجة لهذه الإستثمارات وبالتالي فإنّ الفائض المُحقّق من الموازنة يُستخدَم في سدّ الدين العام وزيادة الإستثمارات.

 

إجتماعيًا: يأتي إستثمار عائدات الصندوق السيادي في الماكينة الإقتصادية ليزيد العدالة الإجتماعية عبر خلق وظائف للمواطن اللبناني وتوزيع الثروة المخلوقة من الماكينة الإقتصادية على جميع أفراد المُجتمع، والإستثمار في البنى التحتية مما يؤمّن رخاءً إجتماعياً كبيراً يستفيد منه المواطن (وسائل نقل، جسور، طرقات، كهرباء…) ويدفعه إلى بدء مرحلة جديدة من تاريخه عبر الإنكباب على الخلق والإبداع في المجال الإقتصادي والتكنولوجي والفكري والثقافي…

 

إداريًا: خلق الصندوق السيادي يفرض الإلتزام بمبادئ سانتياغو والتي تحوي على شقّ أساسي وهو الحوكمة الرشيدة مما يعني سياسة مالية شفّافة. على هذا الصعيد، تقول دراسة الـ«PWC»، أنّ دخول مداخيل النفط والغاز إلى الصندوق السيادي سيُقلّل حكّمًا من سلطة السياسيين على هذه الأموال وبالتالي لن يكون بمقدورهم التصرّف بالمال العام كما يفعلون بغياب الصندوق.

 

أيضاً يُمكن القول إنّ إدارة صندوق سيادي ليست بالأمر السهل، إذ تتطلّب مهارات في مجال الإدارة المالية والتخطيط لمواكبة التغييرات الإقتصادية والإجتماعية والمالية التي يفرضها إمتلاك صندوق سيادي، وهذا يزيد حكماً من نوعية الإدارة العامّة.

 

} الثروة النفطية والصندوق السيادي }

 

لا يُمكن إستخراج النفط والغاز في لبنان بغياب الصندوق السيادي وهذا الأمر ممنوع قانونيًا وأخلاقيًا. فتحويل مداخيل النفط والغاز إلى خزينة الدولة سيؤدّي حكماً إلى خسارة هذه الأموال مع المستوى الهائل من الهدر والفساد وغياب الخطط الإقتصادية للنهوض بالإقتصاد اللبناني.

 

أيضًا سمعنا بعض التصريحات من بعض المسؤولين أن هناك نيّة لديهم لإستخدام مداخيل النفط لسدّ قسم من الدينّ العام. هذا الأمر يُعتبر جريمة كبرى بحق الشعب اللبناني وبحقّ الأجيال المُستقبلية، ولا يُمّكن بأي شكلٍ من الأشكال إستخدام هذه الثروة لتغطية عقود من الفساد والهدرّ.

 

هدف الصندوق السيادي هو الإنماء في لبنان وتأمين ما عجزت الحكومات المُتعاقبة منذ عقود وحتى اليوم عن تأمينه للشعب اللبناني. لذا حذار من محاولة إستخدام هذه الأموال بغير وجهتها الصحيحة وبغير ما ينصّ عليه العلمّ والأخلاق، لأن الأجيال المُستقبَلية لن ترحمنا!