Site icon IMLebanon

حرش بيروت أمامكم و”الدولة”… وراءكم

 

هروَلوا نحوه حين زلزلت الأرض

 

كان اسمها في القرن الثالث عشر La Pinee، ونعرفها اليوم باسم حرش بيروت. وبين الأمس البعيد واليوم حصلت فيها عجائب غرائب، فالحرش يضيق بعين دولة تستكثر على مواطنيها فسحة خضراء. البارحة، يوم شعر البيارتة بزلزلة الأرض (22 شباط) هرولوا إلى هناك. إنها الملاذ الطبيعي الوحيد لهم. هي الرئة الوحيدة التي ما زالوا يتنفسون- أو يمكنهم أن يتنفسوا- فيها. قصدناها للتأكد، بالعين المجردة، من قابليتها لاستيعاب بشر ينشدون راحة وأماناً يفتقدونهما في عاصمة مليئة، بعشوائية، بباطون هشّ. فإلى حرش بيروت سرّ.

حارسان عند المدخل، أمام غرفة تحوطها نفايات بعثرها الهواء، تعلوها يافطة: بلدية بيروت – حرش بيروت. وعند الحاجز الحديدي آرمة تحدد المسموح وتحذّر من الممنوع: بلدية بيروت دائرة الحدائق. ممنوع وقوف السيارات أمام مدخل الحديقة. ممنوع دخول السيارات والدراجات على أنواعها والباعة المتجولين. ممنوع اللعب بالكرة داخل الحديقة حفاظاً على الأشجارالمغروسة من شوطة صاروخية. ممنوع صيد العصافير وإدخال السلاح على أنواعه. ممنوع إدخال الحيوانات وإشعال النار داخل الحديقة. حافظوا على النظافة وارموا النفايات في الأماكن المخصصة لها. الأزهار لكم حافظوا عليها. هي لائحة تعليمات وتنبيهات تستقبل الوافدين.

 

دوام فتح الحديقة أمام المتنزهين: صيفا من السابعة صباحا حتى (…) مساء. كلمة «الساعة» محاها الزمن أو نسيت البلدية تحديدها. والدوام في فصل الشتاء بين السابعة صباحاً حتى الخامسة مساء. ها نحن في فصل الشتاء وها نحن هناك. أصوات الطيور واضحة. ندخل، نتنفس الصعداء، شهيق زفير ونمشي في الأرجاء. كأننا لسنا في بيروت، كأننا لسنا في لبنان، كأننا لسنا في غابة الدولة. نشكر الله على نِعمه ونمشي. الهواء عليل وأشجار الصنوبر كثيرة، تصطف كما العسكر، في تناغم مثالي. هي كانت أكثر، كان بين شجرة وشجرة شجرة. الآن نرى الأغصان تتمدد حرّة أكثر.

 

واحة اطمئنان وتسلية

 

أطفال يركضون، يضحكون، يلعبون. مشهد جميل. وأمهات مشلوحات تحت فيء أغصان الصنوبر مطمئنات على أطفالهم السعداء. نحن، أولاد بيروت، وهي من المرات النادرة التي نقتحم فيها سور «الحرش». نشعر، لأول مرة، أننا افتقدنا طوال أعوام كثيرة مضت جمالية الحرش. نساء يدردشنَ وعشاق يمسكون اليد باليد ويخططون لمستقبلٍ ربما بعيد. وشباب وشابات يجلسون على مقاعد خشبية موزعة في الأرجاء، البعض اختار الإنزواء والبعض الآخر اختار السكينة والبعض الثالث اختار تنفس الصعداء. مستوعبات النفايات نظيفة. هي تقدمة من الفرنسيين. تراكتور بلدية بيروت رقم 2 عند المدخل. رجل مسنّ يتحايل على أوجاع قدميه في سبيل الوصول الى أول مقعد يتكئ عليه. وطفل أشقر يتكلم بالأجنبية: Mami I want flower. لا أزهار في الحرش فقط صنوبر وشربين وسنديان. عصافير تغط بسلام وعصافير تطلق العنان لحناجرها. نتبع الأصوات فتقودنا الى ما يُشبه الحديقة في قلب الحديقة. هنا حديقة TIKA تمّ تنفيذها بالتعاون مع بلدية بيروت ووكالة تيكا التركية للتعاون و… تكملة العبارة أيضا ممحوة. والى جانب العلمين اللبناني والتركي بضعة مجسمات تصلح للعب والتسلية والرياضة. كبار وصغار يلعبون وأبو حسن، أب لعشرة أولاد، وعشرات الأحفاد، يتسلى مع الموجودين. كل شيء في الحرش – كما في لبنان- تقدمة من الخارج. نحن، نعيش عالة على الآخرين. نتكل على المساعدات من زمان وزمان. يقترب منا رجل ويسألنا: ماذا تفعلون هنا؟ نسأله: أنت ماذا تفعل؟ يجيب «هنا مأوى للمرضى ودواء للمرهقين التعبين وأوكسيجين طوال النهار. الروايا تصبح أكثر نقاء. وروائح الصنوبر تشق القلب». نؤيده ونقول له: لهذا نحن هنا.

 

يقترب منا أبو حسن كمن وجد ضالته. فهو يريد أن يتحدث عن كل كل شيء وينتظر من يسمعه. يقول: «يوجد هنا شجر غير مثمر إلا الصنوبر، يلزّمونه مرّة في السنة، يقطفونه ويبيعونه». يتجه نحوه رجل طارحاً سؤالاً وجيهاً: أبو حسن زوجتي اشترت لسان بقر فهل تعرف كيف تعدّه للعشاء؟ يجيبه: إسأل زوجتي تساعدك. زوجته تلعب مع أحفادها بالقرب منا.

 

نعود لنصغي الى أبو حسن: «نحن نأتي الى هنا يومياً، نشرب قهوتنا، ونتنشق الهواء ونرتاح. التدخين ممنوع في الحرش. الترمس أيضا ممنوع. اللاجئون السوريون يتناولون الترمس في الحديقة ويرمون القشور على الأرض. البارحة، نعم البارحة، رفع عمال النفايات ثلاث أربع «تريلات» من القشور والحفاضات» ويستطرد قائلا «أتذكر زياراتي المتكررة الى هنا حين كنت يافعاً، في سبعينات القرن الماضي، لم نكن نرى السماء لاكتظاظ أشجار الصنوبر، وكانت توجد بركة كبيرة، كنا نخلع ملابسنا وننزل إليها فيأتي الناطور ويسرقها». يضحك أبو حسن فنضحك لضحكته. ونتابع الإصغاء الى حكاياته: «الفرنسيون (المظليون) تمركزوا في الحرش ويوم غادروا (1984) تركوا الشوادر وكثيراً من الأثاث. أنا، شخصياً، أخذت نحو عشرين شادراً. كان الحرش فاصلا بين شرقية وغربية. كانت حركة أمل من ميل وإخواننا من الطائفة المسيحية من ميل آخر. وكانت تسقط من حين الى آخر صواريخ في الحرش ويستنفر العناصر من الميلين من دون معرفة من أين أُطلقت الصواريخ».

 

أبو حسن تاجر أسماك. يبيع اليوم «الإجاج والسرغوس الواصل للتوّ من تركيا. بحر لبنان، في هذا الفصل، يبخل بأسماكه. هناك السلطان ابراهيم وذكر الجربيدي «شغل بلدنا» لكن بكميات قليلة الآن أما الإجاج والبراق فيأتيان من تركيا. وهناك في بحر الناقورة الفرّيدي لكن للطبقة البورجوازية. وهناك أيضا، لمن يهمه الأمر، القريدس الإيراني. هو من أجود أنواع القريدس في العالم». ويخبر أبو حسن: «الأحد الماضي، إتصلت بي أم مجد، زوجة ملحم بركات، تعرفينه، المطرب ملحم بركات، واشترت أربعة كيلوغرامات من القريدس، سعر الكيلوغرام الواحد عشرة دولارات. من يشتري مني مرة ثماراً بحرية يعود ويشتري كل مرة».

 

بدأنا مع حرش بيروت وانتهينا في عالم الأسماك. فلنعد الى حيث بدأنا. يمرّ سرب طيور. نسأل عن نوعها فيجيب أحدهم: «إنه البلبل المصري». كل بلاد العالم لديها، بالإسم أو بالتدشين والرعاية، حضورها في حرش بيروت. أب يعلّم ولده المشي. نراه يتعثر، يقع، يضحك، يقف، ثم يتابع. نجلس على مقعد خشبي. نختار واحداً بالصدفة فنقرأ عليه كتابات خطّها أحدهم أو إحداهن: أنا انخطفت بالشوف. انا انخطفت من ثكنة الحلو العام 1984. أنا المخطوف خ.ع. 1982. انا انخطفت في صور. انا ضهرت من البيت وما رجعت. انا انخطفت من منزل أهلي وأمام أعينهم في 23 حزيران 83. أنا انخطفت من الرملة البيضاء، وأنا من أرض جلول، وأنا من الدامور، وأنا من بشامون، وأنا وأنا وأنا… يا لها من صدفة أعادتنا الى الواقع. المخطوفون لديهم مقاعدهم في حرش بيروت. تتقدم الساعة. الغربان ، أو ما يشبهها، تحوم معلنة وقت المبيت. غرفة الحرس محطمة الزجاج في قلب الحرش. عواء كلاب في الجوار. أعمدة الكهرباء قليلة جداً. وقط أسود يلعب وحيداً بالبحص المفلوش على الأرض. يقترب كلب فيهرب القط. نشعر بالذعر من وجوده فنسمع أحدهم يقول، وكأنه شعر بما شعرنا به: «لا خوف من الكلاب هنا… الخوف من البشر في خارج الحرش».

 

ضاق بعينهم

 

نخرج من حرش بيروت لكن أخباره تستمرّ في البال. فكم من مرة سمعنا عن نوايا خبيثة تترصد بآخر واحة خضراء في بيروت وعن ذعر جيران الحديقة من تحويلها الى شيء آخر، الى موقف للسيارات، وقبله الى مستشفى حكومي، وقبلهما الى مبنى للأمن العام، وقبلها الى أي شيء آخر… ألم نقل منذ البداية أن «دولتنا» تستكثر على البيارتة بحرش أخضر؟

 

«نحن» جمعية نشطت منذ أعوام طويلة ووقفت كما السدّ في وجه كل محاولات جرف الحرش وتحويله الى باطون. الحرش موجود في منطقة بارك شارع رقم 20. وكل ما حدث في العقدين الماضيين أكد أن من يمسكون برقبة البلد لا يعيرون اهتماماً للحرش وجيران الحرش وأهل البلد. فعامة الناس هم من قد يهرعون الى الحرش لاستنشاق الهواء أما هم، من يظنون أنفسهم كباراً، فيهرعون الى جزر العالم الواسع ومنتجعاته. مخالفات كثيرة جرت في المكان. محاولات إلغاء للحرش تكررت. لكنه يستمر، ولو بجزءٍ منه، صامداً. رجل يمرّ في الأرجاء علّق في جوابه على الرئة في المكان بالقول: «إذا كان صاحب البيت جباناً واللص جريئا فالبيت ضائع لا محالة». مقولة فشلت – أقله حتى الآن- في الإنقضاض على كامل حرش بيروت.

 

ماذا بعد؟

 

صنوبرات كثيرة، للأسف، اقتطعت. ويقول مؤسس جمعية «نحن» محمد أيوب، الذي دافع بشراسة منذ عقود عن المساحة الأخيرة الخضراء «الحرش لم يتغيّر ولم يطرأ عليه أي جديد في الأعوام القليلة الماضية، لكن، قبل ذلك نجحوا في بناء مبان حكومية عليه، والمستشفى المصري الميداني، كما بني جامع من جهة الضاحية ومجمع شمس الدين و… ولم يتبق من الحرش، الذي كانت مساحته مليون و200 ألف متر مربع، إلا 350 ألف متر مربع».

 

هذا هو حرش بيروت. إنزلوا إليه. هرولوا نحوه وزلزلوا ما تبقى من احلام دولة فاسدة. إمنعوها بعد اليوم من بلع ما تبقى. فهذا حقكم. والذعر الذي أصابكم ذات ليلة من شباط من زلزال يدنو هو تأكيد على أن المساحات الخضراء ليست رفاهية بل فسحة أمان.