«فيه قبض آخر الشهر؟».
تخطّى الموظفون والعاملون في المستشفيات، مؤخراً، هذا «الهاجس». اعتاد معظمهم على واقعٍ جديدٍ صاروا معه أكثر انسجاماً مع فكرة قبول ما تيسّر من الراتب الشهري. قبول الـ«ما تيسّر» أفضل من لا شيء، يقول بعض العاملين في المستشفيات التي تعاني أزمة حادة في السيولة، تُضاف إليها الأزمة «المدوّرة» من عامٍ إلى آخر والمتعلّقة بالمستحقات المالية في ذمة الدولة.
أواخر الشهر الماضي، لم يقبض معظم هؤلاء رواتبهم، أو حتى ما تيسر منها، بسبب إقفال المصارف. وبعدما فتحت هذه أبوابها، الثلاثاء الماضي، لم يتقاض معظمهم رواتبهم كاملة: منهم من تقاضى نصفها أو أكثر أو أقل، بسبب «صعوبة الحصول على كامل الأموال من المصارف»، وفق ما تبلّغوا من إدارات مستشفياتهم التي وعدت بدفع ما تبقّى من الراتب تباعاً. غير أن ما يتخوّف منه هؤلاء أن يصبح خبر الدفعة المتبقية في خبر كان، مع مباشرة مستشفيات عدة إجراءات تبدأ من باب الرواتب أولاً.
صحيح أن هذه الأزمة «هي الأقسى»، بحسب نقيب أصحاب المستشفيات الخاصة في لبنان سليمان هارون، إلا أن الاجراءات التي تتبعها بعض المستشفيات «لم تراع مبدأ الأولويات»، وفق مصادر العاملين. وتلفت الى أن هذا النهج سبق تأزم الوضع، بدءاً من مطلع أيلول الماضي. وجاءت الأزمة الأخيرة لتعرّي النهج الذي تسير عليه معظم المستشفيات. فمنذ ما قبل الحراك وأزمة إقفال المصارف، بدأت مستشفيات عدة إجراءات تقشفية طالت بالدرجة الأولى الموظفين والعاملين فيها، لا سيما الكادر التمريضي. فعمد بعضها إلى إلغاء نظام الدرجات للموظفين وإلغاء الإجازات السنوية وخفض نظام الدوامات وإلغاء بعض المحفزات. وعلى سبيل، كانت كلفة «النوبة» الليلية للممرضين تساوي ضعف الدوام الصباحي. أما اليوم، فقد تساوى «الليل والنهار» بالنسبة لهؤلاء.
اليوم، تكمل مستشفيات أخرى ما بدأته زميلاتها منذ مطلع أيلول. وإذا كانت نقابة المستشفيات تتحدث عن 15 مستشفى بدأت إجراءات تراوح بين «خفض الرواتب وإعطاء الموظفين إجازات على حسابهم وتقليص دواماتهم وتسريح آخرين بعد دمج أقسام طبية في المستشفى أو إلغائها»، إلا أن هذه الجردة تشمل فقط «من تعرفهم النقابة»، بحسب هارون. ما يعني أن العدد الفعلي لمن لجأوا إلى هذه الخيارات ليس دقيقاً، ناهيك عمن سيلجأون إليها أيضاً. ويمكن هنا الحديث عن أمثلة تصلح للتعميم. ففي أحد المستشفيات (في الضاحية الجنوبية)، تقاضى الموظفون والعاملون جزءاً من رواتبهم «بعدما حسمت دفعات من الراتب بحسب أساس راتب كل موظف. وقد وعدنا بأن نتلقى الدفعة المحسومة بعد أسبوع، إلا أننا لم نقبضها بعد علماً أنه مرّ أسبوعان على ذلك»، وفق أحد العاملين. المستشفى نفسه سبق أن أقفل أربعة أقسام، وقلّص دوامات العاملين، لا سيما الممرضين، و«الإجراء الجديد اليوم هو أن الموظفين يجبرون على توقيع تعهد بأخذ الإجازات على حسابهم الخاص… واللي عجبو». وليس بعيداً، هناك مستشفى آخر يسعى الى التعاطي مع موظفيه كعمال مياومين، فبعدما فرض عليهم أخذ إجازاتهم المتبقية، يحاول اليوم «فرض إجازة بالقوة يأخذها الموظفون على حسابهم». ويتحدث أحد الموظفين عن أن التوجه اليوم هو «للعمل يومين شغل ويوم تعطيل»، يصبح معها الراتب في نهاية المطاف «تلتين بتلت».
في أماكن أخرى، طال التقشف مكتسبات العاملين. هكذا، «طارت» في معظم المستشفيات الدرجات، وهي «ما يضاف إلى راتب العامل عن سنوات محددة يقضيها في كل درجة»، وكذلك التعويضات عن «الأعمال الإضافية». هكذا، يخسر الموظفون والعاملون ما اكتسبوه طوال سنوات بضربة أزمة، من دون أن يستطيعوا فعل شيء، خوفاً من ملاقاة مصير زملاء لهم سرّحوا من أعمالهم. علماً أن نقابة أصحاب المستشفيات لا تملك إحصاء عن أعدادهم، كون المستشفيات لا تصرّح عن هذا الإجراء في الغالب.
أما حكاية إقفال الأقسام في المستشفيات، فتكاد تصبح خبراً يومياً، قبل يومين، أقفل أحد المستشفيات طابقاً للطبابة نهائياً، ودمج مستشفى آخر قسم الطبابة مع قسم الجراحة، فيما أقفل مستشفى ثالث طبقة من قسم الجراحة مكونة من اثني عشر سرير وأبقى على طبقة واحدة. وأقفل مستشفى رابع قسماً للعناية الفائقة مكوناً من 6 أسرّة… والحبل «ع الجرار».
ما يجري لا ينبئ بأن الأمر سيتوقف عند هذا الحد. بحسب هارون، الأمور «نحو مزيد من التدهور»، مشيراً إلى أن هناك «3 مستشفيات تعاني من ضائقة مادية كبيرة قد تدفعها لأخذ أمرّ الخيارات». إذ أنها لم تدفع منذ فترة رواتب موظفيها ولم تسدّد مستحقات مستوردي الأدوية والمستلزمات الطبية.
تعاني 3 مستشفيات من ضائقة مادية كبيرة قد تدفعها إلى «أمرّ الخيارات»!
أحد الإداريين يبرّر هذه الإجراءات بأن المصاريف الثابتة تشكل نحو 60% من «ميزانية» أي مستشفى نصفها تذهب رواتب للعاملين. لذلك، في ظل أزمة كهذه، «من الطبيعي أن تصيب السهام بالدرجة الأولى المصاريف الثابتة وتحديداً الرواتب». قد يصلح توصيف هذا الأمر بالطبيعي إذا ما نظرنا إلى الأمر من منظور «صرف اقتصادوي». أما من ناحية الحقوق والمكتسبات، فهو ما تصلح تسميته تعدياً على الحلقة الأضعف هنا.
من جهة أخرى، ثمة جانب آخر للأزمة يزوّد المستشفيات بذريعة اللجوء الى هذه الاجراءات يتعلق بتأخير تسديد الدولة لمستحقاتها. بعد إضراب المستشفيات الأسبوع الماضي، أعلنت وزارة المال في بيان صرف المستحقات عما تبقى من العام 2018، إلا أن ذلك «لن يحل المشكلة»، يقول هارون. إذ أنه «لن يكفي لتسديد جزء بسيط من استحقاقاتنا»، مشيراً إلى سوء فهمٍ حصل إثر صدور البيان. ففي وقت أشارت وزارة المال الى صرف المستحقات، يؤكد هارون أن ما تم صرفه هو الحساب الذي في ذمة وزارة الصحة، وهو ليس كاملاً، إذ أن المبلغ المقدّر هو 175 مليار ليرة، أما ما هو حوّل فلم يتعدّ 73 مليار ليرة فقط». أما المستحقات التي في ذمة مؤسسات الطبابة العسكرية (تغطي حوالى 400 ألف شخص) والتي تبلغ قيمتها أكثر مما هو في ذمة وزارة الصحة، فـ«لم يرسلوا فواتيرها عن نصف العام 2018 إلى وزارة المال بسبب عدم رصد اعتمادات لها في الموازنة. أي أن الفواتير لا تزال موجودة في الوزارات المعنية، من دفاع وداخلية، ولم تحوّل بعد، ولن تُحوّل في المدى القريب».
صحيح أن مسؤولية الدولة كبيرة في هذا الإطار، إلا أن ذلك لا يعفي من تحميل المستشفيات جزءاً من المسؤولية، خصوصاً إذا ما أخذنا في الإعتبار تغاضيها عن الفساد وسوء الإدارة فيها. هذا التغاضي الذي تذهب ضحيته أولا صحة المواطن ومن ثم مكتسبات الموظفين وحقوقهم.