المواطن عليل وذليل والعلاج شبه مستحيل
تتسارع خطى “الموت البطيء”، الذي حذّر منه تجمّع مستوردي المستلزمات والأجهزة الطبية، نحو المستشفيات. فالنقص الكبير في أغلبية أدوات العمليات الجراحية من خيوط التقطيب وغاز التخدير والمشارط وغيرها، وفقدان قياسات أساسية من أدوات قسطرة القلب وتثبيت العظم وغسل الكلى، ومثلها علاج السرطان… دفعت المستشفيات إلى إعلان التوقف عن تقديم الكثير من الخدمات والعلاجات الطبية.
تعاني المستشفيات من نقص حاد في الأدوات الطبية، مستوردو الأدوات الطبية عاجزون عن تأمين المستلزمات بعد اجبارهم على تأمين 50 في المئة من سعرها بالدولار، الشركات طلبت من المستشفيات دفع الديون المترتبة عليها، المستشفيات غير قادرة على الدفع بالليرة بعد ان فاقت ديونها على الدولة 2000 مليار ليرة، ولا بالدولار لانه في الجهات الضامنة يتم تسعير المعدات والمستلزمات الطبية على أساس 1500 ليرة لبنانية للدولار الواحد، مستوردو الادوات الطبية لديهم في حساباتهم أموال عالقة لا يستطيعون تحريكها ويضطرون إلى شراء بما يتقاضونه بالليرة، دولارات من السوق، المصارف ترفض تحويل المبالغ إلى الخارج النتيجة: لا أدوات طبية.
مستشفيات توقف الطوارئ
هذا الواقع دفع مستشفى “المقاصد” إلى الإعلان جهاراً بأنها “توقفت عن استقبال الحالات الصحية، باستثناء الحرجة منها والساخنة، والتي تستدعي المعالجة السريعة والإقامة في المستشفى لمتابعة العلاج، وذلك لأسباب في مقدّمها ارتفاع أسعار المستلزمات الطبية وصعوبة الحصول عليها، وطلب الشركات تسديد معظم ثمنها نقداً، على عكس التسهيلات التي كانت تُمنح سابقاً بسبب الشح المالي (…)”. ومثل “المقاصد” عشرات المستشفيات التي أصبحت عاجزة عن استقبال الكثير من الحالات بسبب النقص “المعيب” في الادوات الطبية. وعلى سبيل المثال فإن إحدى المُصابات بكسر في العظم لم تستطع تأمين “البراغي” المناسبة لحالتها في 13 مستشفى، ولم تتأمّن القِطع الضرورية إلا بعد التواصل مع نقابة المستوردين التي أمّنت لها البراغي بجهد جهيد. المصارف ترفض التحويل
المتحدثة باسم تجمّع مستوردي المستلزمات والاجهزة الطبية سلمى عاصي، استهجنت ما يتناقل عن الربح الذي تحقّقه الشركات واستغلالها للأوضاع من أجل تحقيق مكاسب مادية، وأوضحت أن “المشكلة اليوم لم تعد في الاموال الخاصة الموجودة لدى الشركات والمؤسسات، والاكيد انها لا تتعلق بالرغبة في زيادة أو تحقيق الارباح، إنما في التعاطي مع القطاع المصرفي حيث يصحّ فينا المثل القائل (رضينا بالهم والهم ما رضي فينا). فمنذ صدور القرار الشهير بإلزامنا بدفع 50 في المئة من أموال الاستيراد بالدولار، ونحن نحاول بشتى الطرق تسيير أمور المواطنين، الا ان المصارف التي طلبت ان تكون الـ 50 في المئة من الدولار (طازجة) أي من خارج حسابات الشركات الموجودة في المصارف، وذلك بخرق واضح للتعميم، ما زالت ترفض تحويل الاموال الى الخارج”.
تفيد إحصاءات تجمّع مستوردي شركات الادوية أنه منذ شهر كانون الاول من العام الماضي ولغاية الساعة، لم تستطع أكثر من 20 في المئة من الشركات تحويل الاموال الى الخارج للاستيراد. كما ان ديون الشركات على المستشفيات تبلغ 350 مليون دولار أميركي. وأوقفت المصارف نهائياً كل “خطوط الإئتمان” التي كانت مفتوحة للشركات، وتؤمّن لها مصدراً للتمويل ريثما تسدّد المستشفيات جزءاً من ديونها. وعمدت الشركات المورّدة في الخارج إلى وقف كل تسهيلاتها للشركات اللبنانية بسبب إنخفاض تصنيف لبنان.المخزون استُنفد
بحسب المستوردين فإن “أغلبية الشركات استنفدت مخزونها من الأدوات الطبية، وما تبقّى لديها من فلاتر وأدوات قسطرة القلب (روسورات) ومثبتات العظم (براغي) أصبح بقياسات محددة”.
وتلفت عاصي إلى أن “الخطورة تكمن في امتداد النقص في الأدوات الطبية إلى مستلزمات المختبرات حيث تسجّل غالبيتها فقدان العديد من الكواشف، والتي من دونها لا يستطيع الطبيب تشخيص أو معرفة المرض”.
المستشفيات والمختبرات تعاني أيضاً من عدم توفّر قِطع الغيار التي أحجمت الشركات عن استيرادها، بعدما استُثنيت من تعميم مصرف لبنان بتأمين 50 في المئة من دولار الإستيراد. وبالتالي فإن الآلة أو الجهاز الذي يتعطّل لا امكانية اليوم لإعادة تشغيله. أوساط المستشفيات تفيد بعجزها التام عن تأمين الخدمات الطبية لكثير من الحالات. وبحسب عاصي فإنه “على رغم انخفاض عدد الحالات التي تدخل يومياً الى المستشفيات من 2000 حالة إلى 1000 حالة أي بتراجع 50 في المئة، فإن مستشفيات كثيرة تسجّل تراجعاً ملحوظاً في القدرة على تقديم الخدمات الاستشفائية للكثير من المرضى”. فقدان الأدوات الطبية حوّل عملية تلقي العلاج في المستشفيات إلى “لعبة حظ”، فإذا كان المريض “مشنص” يلاقي طلبه، أما إذا لم يصدف وكان القياس متوفراً فهو معرّض للهلاك حكماً. لا أكياس دم
في الوقت الذي يقف فيه البلد على “كف عفريت” وملايين الثوار في الشوارع معرّضون إما لهجمات المعتدين او للضرب والإعتداء من أكثر من جهة فاسدة، فإن مختلف الجهات الصحية تسجّل نقصاً كبيراً في أكياس نقل الدم. وتشير عاصي إلى أن “لا أحد يمكن أن يعلم نتيجة أي إشكال دامي في ظل هذا الوضع”.
لبنان يُعتبر بلداً منكوباً صحياً. ولغاية اللحظة لا تلوح في الافق أي مبادرة من أجل تسهيل استيراد المستلزمات الطبية، وإن أُقرّت أي خطة اليوم فإن وصول المواد يتطلب شهراً كحدّ أدنى.
حلّ هذا المرض العضال لا يتوفّر في المستشفى وليس بقدرة الشركات تأمين أدواته العلاجية، أما المصارف فتتبرّأ كأنه “جرب” والدولة لا تقوم إلا “بحفر القبور” وعدّ الموتى، وفي النهاية البلد في غرفة الانعاش وليس من أدوات لإحيائه.