IMLebanon

قيمة الإنسان صفر… “وآخر همّ عندهم إذا متت أو عشت”

 

شهادات حيّة… مرضى يروون معاناتهم على أبواب المستشفيات وداخلها

 

 

صرخة تلو الأخرى تُطلقها نقابات الأطباء وأصحاب المستشفيات الخاصة ونقابة الممرضين. والعناوين، كما المضامين، تتكرّر. مطالبة بتسديد المستحقات والإفراج عن أموال محتجزة في المصارف. مستشفيات فقدت قدرتها على تأمين أبسط مقوّمات الاستمرار. أطباء وممرضون تبخّرت رواتبهم يبحثون عن فرص عمل في الخارج. كل ذلك في كنف دولة تتخبّط بمؤسساتها التي يُفترض أن تشكّل صمام أمان للقطاع الطبي. هي مهنة – رسالة بحسب جميع الشرائع والمواثيق وأخلاقياتها مدماكها الأول. فالحق في الطبابة لا يجب أن يكون منّة من أحد. لكن، في ظل ترنّح متمادٍ للقطاع، بات المريض في لبنان الحلقة الأضعف والضحية الأكبر.

بالأمس القريب، وتحديداً سنة 2018، احتل لبنان المرتبة 33 من بين 195 دولة في مؤشّر الوصول إلى الرعاية الصحية وجودتها متصدّراً دول الشرق الأوسط. لن نتطرّق إلى أسباب التدهور الحادّ الذي أودى بقطاع الاستشفاء من بعدها إلى غرفة العناية المركّزة. ولن نُعرّج على عجز الجهات الرسمية الضامنة، من الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي، إلى وزارة الصحة وتعاونية موظفي الدولة وغيرها، عن تأمين كلفة الاستشفاء الباهظة لا سيما في المستشفيات الخاصة. كما لن نتحدّث عن شركات التأمين الخاصة وممارساتها الغريبة العجيبة في كثير من الأحيان. فهي جميعها أمور ما برحت في الواقع تُشبع شرحاً.

 

ما أردنا هنا إيصاله هو بالأحرى صوت مرضى تخطّى ألمهم النفسي ذلك الجسدي، لينتهي بهم المطاف أذلّاء في وطنهم على أبواب المستشفيات. منهم من لم يتمّ استقباله أصلاً، ومنهم من انتظر أياماً ولياليَ على مداخل الطوارئ قبل تأمين المبالغ الخيالية المطلوبة. وثمة من جرى التعاطي معهم وكأن الاستشفاء سوق سوداء من نوع آخر لا أكثر. وآخرون لم يكن لديهم الخيار، يا للأسف، فعادوا من حيث أتوا وليس أمامهم سوى مواجهة المصير. «أعطني الصحة وخذ ثروتي»، يقول المثل الإنكليزي. لكن ماذا تقول شهادات بعض هؤلاء؟

 

فوضى التسعير

 

خالد شاب تعرّض لحادث سير مروّع قبل أيام في أسفل نفق فندق فينيسيا. وتمّ نقله إلى مستشفى الجامعة الأميركية مصاباً بكسر في فكّه الأسفل. عند وصوله إلى مدخل الطوارئ، أبلغت إدارة المستشفى ذويه بالحادث طالبة منهم إحضار مبلغ 23 مليون ليرة يُسدَّد عند الدخول وقبل أخذ صور الأشعة وإجراء الفحوصات الروتينية. وصل الوالد على وجه السرعة وفي حوزته المبلغ المطلوب – والذي كان تسديده شرطاً أساسياً للبدء بالإجراءات اللازمة. يتبيّن أن خالد بحاجة إلى عملية جراحية طارئة في الفك. فيتوجّه الوالد إلى مكتب المحاسبة، ليتفاجأ بالموظف يبتسم في وجهه باستخفاف متسائلاً: «هل أنت جاهز للصدمة؟». لم يدرك الوالد في البداية عن أي صدمة يُسأل إلى أن علِم بأن المبلغ المطلوب لإجراء العملية هو 45 ألف دولار «فريش». موقف لا يُحسد الوالد عليه. فلَم يتردد باللجوء إلى طبيب صديق علّه يتمكن من إقناع الإدارة بتخفيض المبلغ. إلا أن الأخير لم يفلح إلا بالحصول على خصم ألفي دولار من أصل المبلغ. «من أين لنا تأمين مبلغ 43 ألف دولار وأموالنا محتجزة ونحن بالكاد نتدبّر مصاريف الحياة اليومية»، يتساءل الوالد بحزن أمامنا.

 

بعد ساعات طويلة من الانتظار في غرفة الطوارئ، راح خالد يرتجف بشدّة قبل أن يفقد الوعي. توسّل الوالد الإدارة إدخال ابنه إلى غرفة العمليات، متعهّداً تأمين المبلغ لاحقاً، غير أن الأخيرة أصرّت على شرطها مع تأجيل موعد العملية خمسة أيام بانتظار وصول الطبيب المختص من السويد. نسأل الوالد ما إذا كان خالد يحتمل التأجيل؟ «مستحيل، رأيته يموت أمام عيني، وحين سُدّت جميع السبل في وجهي، قرّرت نقله إلى مستشفى خوري حيث خضع في صباح اليوم التالي للعملية بكلفة 1800 دولار». ما هذا الفارق؟ أو أن التسعير أصبح وجهة نظر؟ لا ندري.

 

المستشفى تسعيرة والطبيب تسعيرة

 

إليكم حالة أخرى. شعر وديع عشية أحد أيام كانون الأول الماضي بألم حادّ في المعدة. توجّه إلى مستشفى بيت شباب، بناء على طلب طبيبه، وهو المستشفى الأقرب إلى مكان إقامته، حيث خضع لفحص دم شامل ظهرت من خلاله نسبة التهابات مرتفعة وخطيرة. لكن كون المستشفى غير مجهّز بالمعدات اللازمة لإجراء الصور الشعاعية، طُلب منه التوجّه إلى مستشفى بحنّس. قاد وديع سيارته وهو «يفترخ» ألماً وعند دخوله الطوارئ نُصِح مجدداً بالانتقال إلى مستشفى ضهر الباشق. يضيف وديع: «أنا لا أتمتّع بتغطية صحية خاصة، كما أني لست مضموناً، وبما أن مستشفى ضهر الباشق هو مستشفى حكومي، فالتحاليل هناك حتماً أقل تكلفة».

 

البرد كان قارساً والألم لا يستكين. فوديع يشعر أن حالته خطيرة تستدعي تدخّلاً طبياً عاجلاً. وصل أخيراً إلى مدخل الطوارئ حيث طال انتظاره لأكثر من ساعة. وكانت المفاجأة: «بعد طول انتظار والألم المبرح لا يفارقني، دخل أحد الأطباء إلى غرفة الطوارئ ليبلغني بوجوب تسديد مبلغ 10 ملايين ليرة قبل السماح لي بدخول المستشفى. وأكمل معتذراً عن إجراء الصورة الشعاعية لأن آلة التصوير ليست مخصّصة للأوزان الثقيلة». أحد أفراد عائلة وليد تواصل مع مستشفى مار يوسف، فما كان منهم إلا أن طلبوا إحضار مبلغ 15 مليون ليرة لإجراء الصورة الشعاعية. الأمر يزداد سوءاً. إنها الثانية والنصف بعد منتصف الليل وما زال وليد على باب الطوارئ وقد «خدّره الوجع»، بحسب قوله. عندها قرّرت العائلة نقله من مستشفى ضهر الباشق إلى مستشفى جبل لبنان التي لم تتوانَ إدارتها هي الأخرى عن طلب مبلغ 15 مليوناً لاستقباله. تعهدّت شقيقته، بما يشبه الاستسلام للأمر الواقع، بتأمين المبلغ مع حلول الصباح. وبالفعل، تأمّن المبلغ فأُجريت الفحوصات اللازمة لتشير إلى ضرورة استئصال «الزائدة الدودية» منعاً لتفشّي الالتهاب. في غرفة الطوارئ، لم يكن الوضع أفضل حالاً. فقد توجّه الطبيب إلى وديع هامساً في أذنه: «عزيزي، أنا حسابي منفصل عن حساب المستشفى، بدّي مصرياتي فريش وإلا ما بعمل العملية». ابتعد الطبيب وعاد بعد دقائق مكرّراً السؤال نفسه: «شو يا وديع، تأمّنت المصاري؟ أنا حقّي بدي ياه قبل المستشفى؟». ما الحلّ إذاً؟ تواصلت الشقيقة مع جمعية «كلّنا عيلة» التي وعدت بتسديد المبلغ المطلوب. وهكذا حصل. استوجب الأمر تعهداً خطياً للطبيب بتسديد المبلغ بالدولار الفريش ليُدخل وديع إلى غرفة العمليات في فترة بعد ظهر. والقصة لم تنتهِ. فقد حُجز وديع في المستشفى يومين كاملين إلى أن سدّدت الجمعية 50 مليون ليرة كمستحقات المستشفى و600 دولار بدل أتعاب الطبيب. «أجزم أني كنت لأفارق الحياة على باب المستشفى لو لم تتدخّل الجمعية… آخر هم عندهم إذا متت أو عشت».

 

العلاج مشروط

 

حالة ثالثة نطّلع عليها لكن المعاناة واحدة. ليلى عانت من نزيف حاد وانخفاض مفاجئ في ضغط الدم قبل أسابيع ما استدعى نقلها إلى طوارئ مستشفى بحنّس. هي المعيلة الوحيدة لعائلة تتألّف من زوج من ذوي الاحتياجات الخاصة وولدين. أحد الأبناء يبحث عن عمل والآخر جندي بالكاد يكفيه راتبه. تبادرنا ليلى بالقول: «صارت قيمة الإنسان صفراً، بيفضلوا تموتي تيرتاحوا منّك». الشرط الأول لدخول المستشفى كان تأمين مبلغ 5 ملايين ليرة لإجراء الفحوصات وآخر بقيمة موازية للصورة الشعاعية. وتضيف: «أنا معاشي كلّو ما بيوصل للمليونين ليرة». كمرحلة أولى، خَضعَت ليلى للفحوصات المخبرية بعد أن تمكّن ابنها من تأمين مبلغ الـ5 ملايين ليرة لكنها بقيت في الطوارئ، دون علاج أو متابعة، حتى عشية اليوم التالي. فما كان على الابن سوى طرق باب إحدى الجمعيات التي تكفّلت بتسديد المصاريف. هنا أيضاً، لم تتلقَّ ليلى أي علاج قبل تأمين المبلغ في حين بقيت محتجزة في المستشفى، حالها كحال وديع، إلى أن قامت الجمعية بتسديد مبلغ إضافي بقيمة 17 مليون ليرة ثمن أمصال وأدوية التهاب.

 

فريش، ضمان، وزارة… وتأمين

 

كيفما تنظر من حولك تطالعك المواقف المؤلمة. تخبرنا سارة عن تجربة والدها المصاب بمرض السرطان. وهي برفقته يوماً في أحد مستشفيات بيروت، تفاجأت باستبدال ربطة اليد التي عادة ما تحمل اسم المريض، بالعبارات التالية: فريش، ضمان، وزارة. وتتابع: «من ينعم بالفريش له الأولية في الخدمة والعناية، أما الآخرون مثلنا بيمرجحوا وبيشرشحوا فين قد ما بدّك».

 

نسمع كلاماً كثيراً عن سياسات شركات التأمين التي تحتّم عليها تغطية التكاليف الاستشفائية برمّتها في حالات تسديد قيمة البوالص بالدولار الطازج. لكن إسمع تفرح، جرّب تحزن. سامر يختصر لنا تجربته مع إحدى الشركات ملقياً الضوء على طرق التحايل التي يجري اعتمادها: «دخلت أمي إلى المستشفى لإجراء عملية قسطلة للقلب. وبالرغم من أن ثمن بوليصة التأمين الخاصة بها سبق وسُدّد نقداً بالدولار، إلا أن شركة التأمين تقاعست عن تسديد كافة المصاريف محمّلة إيّانا مبلغ 7 ملايين ليرة عدّاً ونقداً».

 

سوق… وأيام سوداء

 

نستمع في الختام إلى كوليت التي تصارع سرطان الثدي والرئة منذ سنوات طويلة. وهي الآن كمن يعدّ أيامه الأخيرة بعد أن تعذّر عليها إكمال العلاج. «تمنّع المستشفى عن استقبالي… فإما أن أشتري الدواء على نفقتي الخاصة (بعد أن توقّفت وزارة الصحة عن تغطية نفقات العلاج) من داخل المستشفى وهو يُباع علناً في السوق السوداء بسعر 18 مليون ليرة، أو أن أتدبّر تحصيله من خارج لبنان وقد بلغ سعره في تركيا 1200 دولار، فكيف لي تأمين هذا المبلغ شهرياً؟».

 

كوليت، أسوة بجميع من تواصلنا معهم، أمطرتنا بوابل من الأسئلة: كيف نستمر، ولِم هذا الكمّ من العذاب وإلى متى نقاوم؟ لكن ليس في جعبتنا إجابات. أليست هذه مسؤولية الدولة (أو ما تبقّى منها)؟ على أي حال، الاعتصامات والإضرابات تتواصل من قِبَل أهل القطاع الطبي. وآلام المرضى كذلك. ارحموهم…