يؤكّد «حزب الله» بشكل شبه يومي، من خلال بياناته وخطاباته وخطواته السياسية، أنّه يعدُّ لبنان رهينة أكيدة لاستراتيجيته، ليكتمل بذلك عقدَ دول محور المُمانعة الذي وُلِدَ من رحم ايديولوجية نشر الثورة الاسلامية في ايران التي انفجرت منذ حوالى 45 سنة في طهران مع عودة الخميني من منفاه الباريسي (كم من ويلاتٍ ومصائب قد أرسل هذا المنفى لمنطقتنا) والتي تمدّدت في مجتمعات الدول المُجاورة، مسبِّبةً عدم الاستقرار الشامل والحروب المُستمرّة والدمار الهائل والخراب المُمنهج والتخلّف الفكري والاجتماعي، والتي ثابرت على نهش أجساد مجتمعات هذه الدول، مُترّجمةً استراتيجيتها التوسّعية التي لا يُمكن إستكمالها إلا باعتماد منهجية الإلغاء لكلّ الثقافات الاصيلة لشعوب المنطقة، وأكثر الاسلحة فتكاً المُستخدمة منها لتنفيذ مخطّطاتها، بالاضافة للالغاء الجسدي.
يأتي سلاح الخداع المتتالي الذي لن يتوقّف حتّى بعد نجاحه باغتيال الشخصية الوطنية والانتمائية لشعوب المنطقة، وبناء مواطن جديد غريب، وبيئة خاضعة ومريضة ومجتمعات مذلولة ومؤدلجة ومتلقّية للافكار الايديولوجية التي تُبثّ لها والبعيدة كل البعد عن الحقيقة والحضارة والتمدّن والارث. وبهذا المسار الخداعي يعلو صوت مسؤولي «حزب الله» في الآونة الاخيرة، بدءاً من أمينه العام، داعياً الأخصام والمعارضين إلى التوقّف عن الاستنجاد بالخارج والتأمّل بالتحرّر من سطوة مشروعهم، وناصحاً إياهم بعدم إنتظار التغيير من القوى الخارجية النافذة لمساعدتهم بفكّ أسر «الوطن الرهينة»، ومؤكّداً أنّه مهما أتى من وفودٍ أجنبية تحت مُسمّيات متعدّدة، منها قضائية واستقصائية ومنها أمنية، فلن يكون لها التأثير في المسارات العريضة التي وضعها مشروعهم لمستقبل هذا الوطن.
إنّ «حزب الله»، المُتيقّن بأنّ نجاحه بإختطاف الوطن كان نتيجة خطواته المدروسة على مدى السنوات الماضية منذ ثمانينات القرن الماضي، لن يقوم حالياً بالتخلّي عن المنهجية التي أوصلته الى مُصادرة قرار الدولة، وإنّ صوت أنين الشعب اللبناني المُعذّب لن يجد آذاناً صاغية لديه، إذ أنّ هدير عقيدته الدينية الفقهية أعلى بكثير من كافة الإنشغالات الاخرى المتعلّقة بالمعايير الانسانية للشعوب المنتشرة من إيران وحتى لبنان.
ومن منطلق هذه الذهنية يسمح لنفسه وبالتالي لاجهزته الايديولوجية والاعلامية والأمنية والسياسية بممارسة كافة أنواع الخداع اللامتناهي، ومن دون رادع أخلاقي، فعقيدته الدينية الجامدة تُجيز له رمي المفاهيم المدنية والحقوق الانسانية جانباً كونها تتعارض مع منهجه الالغائي. إنّ «حزب الله» يحصر إهتماماته وبرامجه بتعبئة بيئته بالعنفوان المُخادع وفائض القوة الوهمي والغلبة الغبية ويُمارس كافة أنواع الضغوطات النفسية والعملية على البيئات الأخرى لإخضاعها، والدافع الأساسي له ينبع من قناعته الواضحة بنظرته للدولة القادرة والقوية والعادلة التي يُؤمن بها والتي تستند بمرتكزاتها على إيديولوجيته، التي تؤمّن لمُمارساته الإلغائية والخداعية الغطاء الشرعي.
وإنّ إعتقاده بقدسيّة قضيته يُبرّر ممارساته ويُتيح له تجاوز المنطق السليم والحقيقة السليمة، ومن هنا يُمارس مسؤولوه الخداع بمعنوياتٍ عالية، حيث إنّه يُخيّل للمُتابع بأنّهم إمّا يعيشون في عالمٍ آخر وإمّا تنقصهم المعلومات الصحيحة. فحين يُخاطبهم اللبنانيون من أطرافٍ أخرى أو بيئاتٍ مختلفة من منطلقٍ وطني ومن مفهوم الشراكة الطبيعية التي يجب أن تسري بين أبناء الوطن الواحد، يأتي ردّهم غريباً وعجيباً ومنفصلاً عن الواقع عاكساً إيديولوجيتهم التي تقضي بالحفاظ على معادلة «الوطن الرهينة».
فحين يُخاطب بضرورة إستكمال التحقيق في جريمة العصر الناتجة عن تخزين متفجّرات في مرفأ بيروت أدّت لإنفجارٍ دمّر العاصمة وقتل المئات وشرّد الآلاف، يردّ ببرودة أعصاب بأنّ من يمنع الوصول للحقيقة هو إصرار قاضي التحقيق على إستكمال الاجراءات القانونية والتحقيقات الضرورية التي تكشف الحقائق، مُعتبراً بكلّ وقاحة مدعومة بالايديولوجية الدينية أنّ الحقيقة التي يجب أن تُعرف لا داعي للبحث عنها، فهي جاهزة في فبركات أجهزته الخداعية.
وعندما يُطالبه الآخرون بحضور جلسات الانتخابات الرئاسية وعدم التعطيل، يردّ بكلّ فظاظة بأنّ من يُعطّل الاستحقاق ليس إلا من يُصرّ على المُمارسة الديمقراطية ومفهوم الانتخابات، فالرئيس بالنسبة له جاهز، وهو من عِداد الخاضعين والمستعدّين لممارسة الحكم من خلال إرشاداته وضوابطه الاستراتيجية الخادمة لمحوره الحاجز على «الوطن الرهينة». وعندما يُخاطبه البعض بضرورة حلّ الازمة المالية وباحترام القوانين التي تُساعد على خطة الانقاذ، وأول بنودها وقف الهدر والتهريب واستخدام مؤسسات الدولة اللبنانية والخزينة اللبنانية لصالح اقتصاد المحور، يردّ بوقاحة منقطعة النظير بأنّ من سبّب ذلك هو القطاع المصرفي غير الخاضع لتعليماته ولغسل أمواله، وهكذا دواليك.
ففي كلّ الملفّات والقطاعات له نظرته النابعة من ايديولوجيته الفقهية، وليس للعلم والفهم والتقنيات أي معنى عنده، فقط هدير المعركة التي يخوضها اقليمياً هو المسموع، وفقط على سلاح الخداع يعتمد ويرتكز، وبالرغم من معرفته الأكيدة بأنّ نفاقه معروف ومكشوف، قناعته بقدّسية دوره كافية له لتحدّي المنطق الانساني السليم، فلا شيء يقف عائقاً أمام مخطّطاته وأساليبه وأهدافه التي ترتكز حالياً على إبقاء «الوطن الرهينة» كمعادلة لا تخلّي عنها مهما حاول البعض الآخر طرح مبادراتٍ تسووية، فالمُتاح حالياً مع هذا الحزب، إمّا الخضوع لممارساته، وإمّا مواجهته بمعادلة «الوطن المتحرّر» طبعاً من خداعه ومن إرتهانه له.