IMLebanon

لا يكفي العداء للسُنّة كي يُبنى وطن

للطوائف، كلّ الطوائف، وعيٌ ضدّيّ. إنّها تعرف هي ضدّ مَن. تعرف ذلك أكثر كثيراً ممّا تعرف ما الذي تريد. أو أنّ ما تريده هو بالضبط أن تكون ضدّ طائفة أخرى تُخضعها. قضيّتها إخضاع الآخر الطائفيّ. وهي تغطّي ذلك وتسوّغه بالكثير من الأدلجة القوميّة أو الدينيّة أو الاجتماعيّة.

هذا كامن في تكوين الطوائف، لا فضل فيه لواحدة على أخرى. لهذا نادراً ما كانت اليد العليا، في أيّ منها، لوعي وطنيّ يغلّب التسوية مع سائر مكوّنات البلد كي يُبنى وطن.

في 1989 تراءى للبنانيّين كثيرين أنّ لبنان جديداً وُلد. لكنّ هذا اللبنان قام بالضدّ من المسيحيّين. قام ضدّهم. استعيرت أغانيهم وأناشيدهم وقصائدهم في التغنّي بلبنان كي تُستعمل لإخضاعهم. بدا السنّة والشيعة والدروز متّفقين على تقسيم عمل ترعاه الوصاية السوريّة وينهض عليه لبنان الجديد: الاقتصاد والإعمار للسنّة والمقاومة للشيعة. المسيحيّون اصطدمت كلّ محاولة يحاولونها لتعديل هذا الواقع بابتزازهم: أنتم حلفاء إسرائيل. التخوين والتشهير شكّلا الأخلاق العامّة لمجتمع بلا أخلاق.

لكنّ الاتّفاق كان مسكوناً بسمّ التهميش المسيحيّ، بل كان منخوراً به. لم يستطع الغطاء «القوميّ» الذي وفّره الأمن السوريّ أن يسدّ الفراغ الكبير. الغائب المهمّش ظلّ يقضّ مضاجع الحاضر. الخلاف بين الطائفتين المسلمتين الكبريين كان توأم الاتّفاق بينهما. بالتدريج، لم تعد المقاومة تتحمّل الإعمار ولم يعد الإعمار يطيق المقاومة. القُبَل تُطبع على الخدّ والسكّين في الظهر.

حين انفجر هذا اللبنان في شباط (فبراير) 2005، تحرّكت شهوات الطوائف: تراءى لتحالف سنّي – مسيحيّ لم يعش طويلاً أنّه يستطيع أن ينشىء بلداً جديداً على الضدّ من الشيعة. كان هذا رهاناً 14 آذاريّاً أحمق واجهه رهان 8 آذاريّ أكثر حمقاً: أن تُفرض بقوّة السلاح وطنيّة جديدة على السنّة والمسيحيّين. سلاح الابتزاز كان جاهزاً على خطّين: «كلّ» الشيعة عملاء سوريّة وإيران. «كلّ» السنّة عملاء أميركا وإسرائيل. الذين استُثنوا من هذا «الكلّ» أفراد شيعة ملحقون بالسنّة، وأفراد سنّة ملحقون بالشيعة.

مذّاك حفرت الأرضَ سواقٍ كثيرة امتزج فيها الوحل بالدمّ. وها نحن ننتهي اليوم إلى صيغة ضدّيّة أخرى للبنان ووطنيّته مفادها إبعاد السنّة وتهميشهم. الظرف الدوليّ، مقروءاً بعين شيعيّة وعين مسيحيّة، يحضّ على ذلك. الظروف الإقليميّة لا تختلف كثيراً. الموضة دوليّاً وإقليميّاً هي الحرب على الإرهاب. «الإرهاب سنّيّ». إذاً عليهم.

تنميط السنّة بوصفهم «داعشيّين» امتداد لتنميط المسيحيّين بعد 1989 بوصفهم إسرائيليّي الهوى والارتباط، وامتداد لتنميط المسلمين، السنّة منهم والشيعة، بُعيد 1982، بوصفهم فلسطينيّي الهوى والولاء. الضدّيّة الطائفيّة ضربت وتضرب في الاتّجاهات كلّها.

لكنْ مثلما لم تُفلح المحاولات السابقة فإنّ هذه المحاولة لن تفلح. وكما انفجر من داخله التوافق السنّيّ – الشيعيّ ضدّ المسيحيّين بعد 1989، يُرجّح أن ينفجر من داخله التوافق الشيعيّ – المسيحيّ الحاليّ ضدّ السنّة. ومثلما انحسر ابتزاز المسيحيّين بإسرائيل سينحسر ابتزاز السنّة بالإرهاب.

فالوطنيّة يصعب أن توضّب بسرعة كأنّها سلعة للتهريب، والزجل والفولكلور لا يكفيان لصنعها وإسباغ الديمومة عليها. ثمّ إنّ 120 إرهابيّاً من «النصرة» ليسوا الصمغ الكافي لوحدة يقوم عليها وطن.

هذا لا يعني أنّ انكسار هذه الوطنيّة الحمقاء سيفتح الباب لوطنيّة أخرى متوازنة وصحّيّة. الوطنيّة الحمقاء، وكما أشار الزميل حسام عيتاني في «الحياة» (28/7)، انكسرت مرّات عدّة في السابق. فهي لم تكن تتعلّم من الحروب الأهليّة التي تسبقها وتعمل، من ثمّ، على تفادي تكرارها. لقد كانت تحضن فيها عناصر الغلبة والاستعلاء المُفجّرين، عاجلاً أو آجلاً، لمزيد من تلك الحروب. والوطنيّة العاقلة ليست اليوم في الأفق. وهي لن تولد ما لم يتراجع الوعي الضدّي ويحلّ محلّه وعي مهجوس بالتساؤل: كيف لا يُخضِع أحد أحداً، ولا ينمّط أو يخوّن أحد أحداً، فنؤسّس عندذاك وطنيّة قائمة على التسوية، وطاردة للحروب الأهليّة؟

في الظرف اللبنانيّ، كما في الشروط العربيّة المحيطة، ليس هناك ما يوحي بذلك. كلّ الإيحاءات هي بعكسه. كلّها معالم على الجحيم.