لا يختلف إثنان على أنّ التجربة السوفياتية كانت غنية في وأد الصراعات العرقية والقومية وقطع دابرها، اعتماداً على مبدأ أنّ أحد أبرز أقانيم وحدة الدولة تكمن في منعتها وحمايتها من التفكك سواء على أساس عرقي أو قومي أو طائفي مذهبي، ومن أقانيم ضعفها هو بداية تفككها وعودة كل ألوان الصراعات ونبش قبور الماضي.
الظاهر أنّ هذا المبدأ لا يُراعى اليوم في روسيا والدول المجاورة لها، روسيا التي تعطي اليوم للعالم كُله انطباعاً بأنّها قوية واستطاعت إعادة أمجادها على مخلّفات دولة منهارة كالإتحاد السوفياتي، فبخلاف هذه الصورة الظاهرية، فإننا نشهد عودة مُستعرة للصراعات التي ساهمت بفرط عقد الاتحاد السوفياتي، لتظهر دفعة واحدة سلسلة من التوترات.
المشكلة لا تكمن بما تروّجه دوائر رسمية في موسكو عن ضغوطات وتدخلات خارجية، بل تكمن في سلوك معتمد ومعقّد بدأ الكرملين بممارسته منذ عامين تقريباً، بعد الذي شهدته أوكرانيا في شرقها وبعد ضم القرم، ومن ثم ما يشهده ناغورني كاراباخ، الى الشيشان وداغستان وبريدنستروفييه ومولدوفا،عدا محاولات الانفصال في الجمهوريات السوفياتية السابقة في طاجيكستان وقيرغيستان، والآن التوترات بين أبخازيا وجورجيا.
في عام 1992 اندلعت أكثر الحروب دموية بين الطرفين، بعيد انهيار الاتحاد السوفياتي ودامت نحو السنة على ضفاف نهر أنغوري، وهو الحد الفاصل بين جورجيا وابخازيا المتمرّدة، اثر تدخّل الجيش الجيورجي لمصلحة الأكثرية في الإقليم في مواجهة أقلية عرقية مدعومة من روسيا، مُخلّفةً آلاف القتلى والمشردين في اقليم «غالسكي».
وأتت تحديداً بعد أن اتخذ المجلس الأعلى للجمهورية الابخازية في 23 تموز عام 1992 قراراً بإعادة العمل بدستور جمهورية ابخازيا السوفياتية الاشتراكية الصادر في عام 1925، والذي تُعتبر ابخازيا بموجبه دولة ذات سيادة.
وبدأت عملية إقصاء الجورجيين عن مناصب قيادية في جهاز الدولة. واتخذت تبليسي رداً على ذلك قراراً بدفع قواتها الى ابخازيا، على رغم أنّ الحكومة الجيورجية عملت على حل النزاع بتقديم عروض تمنح بموجبها الإقليم صلاحيات ذاتية واسعة.
لكنّ نزعة الإنفصال ظلّت هي السائدة، إذ أنّ الحكومة الأبخازية الإنفصالية والمعارضة، كانت ترفض كل أنواع البقاء في دولة واحدة مع جورجيا. وبخلاف ذلك، فإنّ الجيورجيين ظلوا يدّعون أنّ أبخازيا كانت دائماً جزءاً من جورجيا على مر العصور، بدليل أنّ الجيورجيين ظلّوا يشكّلون الأكثرية العرقية في أبخازيا قبل الحرب، حيث كانت نسبتهم 45.7 في المئة من مجموع السكان في 1989.
وعلى رغم الجهود لوقف الحرب وانتشار قوات روسية للفصل بين الطرفين، فإنّ احتمال عودة النزاع تبدو ماثلة للعيان مع كل تحوّل ومنعطف. وتعتبر اليوم منطقة غالسكي أكثر المناطق التي تنتشر فيها الفوضى ونسبة الجريمة، والتي تعتبر الأعلى في القوقاز. أمّا أكثر انواع الجرائم انتشاراً فهي الخطف بهدف الحصول على فدية، وكان آخرها خطف مدرّسة في آذار 2016 كادت أن تفجّر حرباً بين الطرفين.
وفيما تختلف مواقف الأطراف المتصارعة بشأن التواجد العسكري الروسي ودوره، إذ تتهمه جورجيا بالتدخل لمصلحة الطرف الآخر، بدليل ما تسوّقه من حجج ناتجة عن اعتراف روسيا باستقلال أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية في 26 آب عام 2008 بعد انتهاء حرب القوقاز الناتجة عن هجوم قامت به جمهورية جورجيا على أوسيتيا الجنوبية، حطمت بنتيجته روسيا قدرات الجيش الجيورجي، استكملت روسيا أعمالها بالتوقيع عام 2009 مع كل من هاتين الجمهوريتين أي ابخازيا وأوسيتيا على اتفاقية الحراسة المشتركة لحدود الدولة.
وتمارس حكومة ابخازيا سياسة خارجية ترمي الى اقامة علاقات تحالف مع روسيا، كما تقدمت بطلب الإعتراف باستقلال الجمهورية الى روسيا ومنظمة الأمم المتحدة وبلدان رابطة الدول المستقلة. من الواضح أنّ الغالبية الجيورجية في أبخازيا تواجه مساراً طويلاً للحصول على حقوقها، خصوصاً بعد تجريد قسم كبير منها من الجنسية الجيورجية، ومعنى ذلك التخلي عن الحقوق الإجتماعية التي توفّرها لهم تبليسي بالمقارنة مع الجمهورية المستقلة.
كما أنّ غالبية سكان غالسكي لا يتحدثون إلّا باللغة الجيورجية، هناك لا يشاهدون إلّا التلفزيون الجيورجي ولا يستمعون إلا لراديو جورجيا.
ووفق استطلاعات الرأي في اقليم غالسكي، والذي نظّمته وكالة « ميديوم اوريينت» في العام 2016 ، فإنّ 14 في المئة فقط من الذين تم استفتائهم يشاهدون التلفزيون الأبخازي.
كما أنّ الأولاد لا يلتحقون إلّا بالمدارس التي تدرّس اللغة الجيورجية، وكذلك، فإن كل المؤسسات الصحية تمولها الحكومة الجيورجية، حتى محطة الكهرباء الرئيسية هناك تتم صيانتها من الموازنة الجيورجية.
وهذا ما يقلق كثيراً الطرف الابخازي الذي يحاول منع تمدّد وتنامي الدور الجيورجي في الاقليم. كما أنّ كل المحاولات الابخازية لروسنة السكان فشلت الى الآن، ويبقى أنّ جرجاً نازفاً قد يعود في اي حين، في حال لم تتخذ اجراءات تحلّ هذه العقد بين الجانبين اللذين يجمعهما كثير من الروابط التاريخية.
لا شك أنّ كثيراً من الأمور يقع على عاتق الطرف الروسي في حل هذا النزاع والسير في عجلة الحوار لإزالة الشوائب في العلاقة، وباتباع سياسة عدم انحياز روسيا لمصلحة فريق على حساب آخر، الأمر الذي لا يبدو أنّه يلوح في الأفق المنظور، باعتبار أنّ روسيا تنطلق في سياساتها مع جيرانها وفي مناطق في العالم انطلاقاً من نظرة جيوسياسية، والتي تجرّ خلفها الكثير من امكانية استحضار الصراعات النائمة.
أبخازيا لمحة تاريخية
انضمّت ابخازيا الى جورجيا في القرن العاشر كنتيجة للزواج السلالي، وبعد سقوط جورجيا على أثر الغزو المغولي في القرن الثالث عشر، غدت أبخازيا مجدداً دولة مستقلة، وانضمّت بشكل طوعي الى روسيا. وظلّ الأبخاز يحكمون بلادهم ضمن الامبراطورية الروسية حتى عام 1864.
وبعد فرض السلطة السوفياتية أعلن في عام 1921 قيام جمهورية أبخازيا، كأحد مكونات الاتحاد السوفياتي. وفي عام1931 تمّ ضمّها الى جمهورية جورجيا السوفياتية الاشتراكية حيث اصبحت تتمتع بالحكم الذاتي.
وبدأ التوتر بين الجورجيين والأبخاز يتزايد في اواخر الثمانينات بسبب مطالبة الجورجييين بالإستقلال عن الاتحاد السوفياتي، في مقابل إعلان القيادة الأبخازية نيتها البقاء ضمن الإتحاد السوفياتي والإنضمام الى روسيا.