محيِّر هذا الواقع الانتخابي، لم يعُد يُعرَف أوّله من وسطه من آخِره، حليف يُجافي الحليف، وحليف يماشي الخَصم والحليف، وحليف يُجافي الخصم والحليف، وما بين الحليف والخصم من يُجافي الجميع، وبين كلّ هؤلاء مواطن تائه بين الطروحات، ومواطن آخَر كالبلبل يدور ويدور، ويدور، بلا توقّفٍ وسط الحلبة!
محيِّر هذا الواقع الانتخابي، يقال الشيء وعكسُه، مقولة «كلام الليل يمحوه النهار»، جرفتها الصيغ والأفكار وأفقدتها صلاحيتَها، فصار كلام النهار يمحوه النهار، مواقف تُعلن ما تلبث أن تُلحس أو تُبلع، وتصير في يد بالِعها أو لاحِسها مادةَ انتقاد وهجوم على من يتبنّاها ويمشي بها!
هو واقع لم يَجد مرجعٌ سياسي توصيفاً يُسقطه عليه أفضلَ من «العصفورية» وكلّ يوم يزيد عدد نزلائها!
ما يدفع المرجعَ السياسي إلى هذا التوصيف، هو «أننا لا نرى أمامنا منطقاً انتخابياً ثابتاً، بل منطق متحرّك يذهب في كلّ فترة إلى نظام انتخابي جديد، إلى حدّ أنّنا لم نعد نستطيع أن نَلحق به، ولم نعد نعرف مع أيّ منطق سنتعاطى.
فلنستعرض الصورة:
– منطق تبنَّى قانون الستين، وحارَب لأجله في الدوحة، ورجع إلى بيروت منتصراً ورافعاً شعار استعادة الحقوق، لكنّه عاد ورَذله ووصَفه بالقانون المتخلّف.
– هو المنطق نفسُه انتقل من «الستين» إلى النسبية، ورفعَ لواءَها، فوافقَ على مشروع حكومة الرئيس نجيب ميقاتي، ووزيرُه صوَّت مع هذا المشروع، ثمّ عاد ووافقَ على مشروع بكركي الـ«15 دائرة»، وطيلة فترة ما قبل الانتخابات الرئاسية نظّرَ لها كشعار وسبيل لتصحيح التمثيل وعدالته، وبعد الرئاسة دخَل هذا المنطق في نقاشٍ مع سياسيين مسوِّقاً للنسبية، وبَلغ الأمر ذروتَه في خطاب رئيس الجمهورية ميشال عون أمام السلك الديبلوماسي منتصف كانون الثاني الماضي، وفيه ما حرفيتُه: «أولى أولوياتنا تنظيم انتخابات نيابية وفق قانون جديد يؤمّن التمثيل الصحيح لكلّ شرائح المجتمع اللبناني، ما يوفّر الاستقرارَ السياسي، أمّا تخوّف بعض القوى من قانون نسبي فهو في غير محلّه لأنّ وحده النظام الذي يقوم على النسبية يؤمّن صحّة التمثيل وعدالته للجميع، وعليه، قد يَخسر البعض عدداً من مقاعدهم ولكنّنا نربح جميعاً استقرار الوطن».
– هو المنطق نفسُه ومن دون مقدّمات، فاجَأ الجميع بتراجعِه عن النسبية ورفض السير بمجموعة اقتراحات لقانون نسبي، وانتقل إلى التمسّك بالمشروع التأهيلي، وبصيغة ضيّقة جداً تقطع طريقَ التأهيل أمام الشرعية الواسعة من الشخصيات والمكوّنات الأخرى، خصوصاً ضمن الطائفة المسيحية.
– هو المنطق نفسُه، أشعَر كلَّ الآخرين، الحلفاء قبل الخصوم، بأنّه لا يريد فقط فرض قانونِه والصيغة التي فيها ربحٌ له، بل يريد أيضاً احتكارَ الـ«نَعم» والـ«لا». أي «نعم» لمشروعه، و«لا» لكلّ المشاريع الأخرى، حتى إذا ما تجرّأ أحد بالاعتراض أو التحفّظ أو إبداء ملاحظات على «مشروعه» يقابَل بالويل والثبور وعظائم الأمور، وتنهال عليه الاتهامات والهجومات.
وتبدأ ما تُسمّى محاكمة النوايا والأفكار… فمن أعطى الحقّ الإلهي لأيّ فريق لكي يفرضَ ما يريد على الآخرين؟
– منطق آخَر قال بـ«الستين»، وحتى ما قبل أسابيع قليلة لم يكن يرى غيرَه. دخَل في تفاهمٍ مع «حليف قديم» يُلبّي «الستين»، ويُعارض أيَّ قانون يُلغي أو يُحجّم أو يُقصي أيَّ مكوّن. ثمّ فجأةً تَبخّر هذا التفاهم، وانتقلَ هذا المنطق إلى النسبية ومماشاة «الحليف الجديد» بكلّ ما يطرحه.
– هو المنطق نفسه قال بالتمديد لمجلس النواب بحسب اقتراح النائب نقولا فتوش، ثمّ بعد أسبوع قال إنّه ضد التمديد. ثمّ قال بالتصويت في مجلس الوزراء على القانون الانتخابي، مماشياً منطقَ رئيس الجمهورية وفريقه، ثمّ عاد بعد أيام ليقول إنّه ضد التصويت مشاركاً القلِقين من أن يؤدي طرح المواضيع الخلافية على التصويت في مجلس الوزراء، إلى ما لا تُحمد عقباه.
– هو الفريق نفسه، سبق له وكان رأسَ حربة الاعتراض على بواخر الكهرباء أيام كان الوزير جبران باسيل متولّياً وزارة الطاقة، هو نفسُه اليوم أكثر حماسة من باسيل ووزير الطاقة الحالي و«التيار الوطني الحر» على استقدام بواخر الكهرباء. وإلى حدٍّ أنه حاكى الاستقالة في مجلس الوزراء الأخير ما لم يتمّ ذلك.
إذاً أمام هذا المنطق المتبدّل بين موقف وآخر، يقول المرجع السياسي: لا نعرف مع أيّ منطق نتعاطى، وخصوصاً أنه كما تدلّ صورة المشهد السياسي، منطق آيِل للتبدّل أيضاً في أيّ وقت، وما علينا سوى أن نراقب وننتظر على أيّ موقف سيَثبتون.
ولكن ما المخرج؟
بات محسوماً، والكلام للمرجع المذكور، أنّ مآلَ الأمور سينتهي إلى أحدِ خيارين، يتمّ الاتفاق عليه قبل 20 حزيران، إمّا الوصول إلى قانون نسبية على أساس الدوائر الوسطى، وإمّا إجراء الانتخابات على أساس القانون النافذ.
فالتمديد، يقول المرجع، انتهى، وكذلك الأمر بالنسبة إلى الفراغ. فلا أحد يجرؤ على أخذِ البلد إليه، لأنّ البلد مكشوف على كلّ الاحتمالات السلبية:
أوّلاً: الاستقرار السياسي هشّ، وأسطعُ دليل ما نعيشه اليوم، فكيف سيكون هذا الاستقرار في مرحلةِ الفراغ؟
ثانياً: الوضع الاقتصادي خطير جداً، والوضع المالي يشهد نزيفاً حادّاً، فأيّ وضعٍ اقتصادي ومالي بعد الفراغ، وكيف سنجد العلاجَ بعد هذا الفراغ؟
ثالثاً: التطورات المتسارعة من حول لبنان، فالمنطقة وللمرّة الأولى تشهد خطراً مصيرياً هو الأكبر في تاريخها؛ كيانات تنهار، حدود تزول، وجغرافيا تتبدّل. لا أحد يستخفّ بما يجري من حولنا. إسرائيل في أسعدِ لحظاتها، «حماس» استقالت من وظيفتها كحركة مقاومة، والرئيس الأميركي دونالد ترامب قادِم إلى المنطقة ليأخذ ما تبقّى عند الفلسطينيين ويُقدّمه إلى نتنياهو.
وأخطر ما يَجري هو قمّة الرياض الأميركية العربية في حضور ترامب، لبناء حِلف جديد وجيش تحالف جديد لتطويق إيران وكلِّ من معها. يعني قمّة الحرب المقبلة. أمّا ذروة الخطورة فتكمن في ما سُمّيت المناطق الآمنة في سوريا، وأخطرُ ما فيها هو القريب منّا (في الجولان ومنطقة القنيطرة).
المخيف هنا أن تمتدّ إلى مزارع شبعا، ليس فقط أن تمتدّ جغرافيّاً، بل أن تمتدّ بشَرياً. وهناك معلومات عن «وحدات معيّنة» في الجيش الإسرائيلي يجري تأهيلها لتتولّى هذه المناطق بالتعاون مع أبنائها، أشبَه ما يكون بالشريط الحدودي أيام أنطوان لحد! ولكن خطورته الكبرى تتجلّى في كونه «شريطاً طائفياً»، والأخطر من كلّ ذلك أن تتمدّد شرارته إلى لبنان.
وهنا تندرج المواقف المحذّرة من تنامي المنحى الطائفي في الداخل اللبناني، وفي مقدّمها الصرخات الأخيرة التي أطلقها الرئيس نبيه بري تحذيراً من هذا المنحى، ومن كلّ الرياح الصفراء التي قد تهبّ من تلك المنطقة في اتّجاه لبنان.