ستظل قضية الوزير اللبناني السابق ميشال سماحة مورداً لقراءات في معاني الاجتماع والسياسة والعلاقات مع «الرعاة الاقليميين» لأعوام مقبلة عديدة.
قليلة الأهمية تلك التفاصيل الأمنية و»الجيمس بوندية» عن كيفية إدخال سماحة المتفجرات الى لبنان من سورية بغرض ارتكاب اعمال اغتيال واعتداء على تجمعات شعبية. حتى لو صَدق الرجل في روايته لكيفية تجنيده من قبل مخبر متعاون مع جهاز امني لبناني (معادٍ للتحالف السياسي المنتمي سماحة اليه، وفق خرائط الولاء للزعامات المتناحرة)، وحتى لو تبين أن دور المخابرات السورية كان مجرد الموافقة والتجهيز والتمويل، كما يزعم المتهم، ثمة في القضية مجال شاسع للتعرف على جماعة السياسيين اللبنانيين على نحو لا يظهر في برامج الحوارات التلفزيونية ولا في تصريحاتهم الصحافية.
تظهر في ملفات التحقيق، منذ البدء بنشرها بعد توقيف سماحة في آب (أغسطس) 2012، صورة كالحة السواد يعرفها اللبنانيون من دون أن تكون موضع استنكار او ادانة عامتين. انها صورة السياسي الذاهب في تحقيق مصالحه الشخصية وخدمة اولياء امره ونعمته الى ما يتجاوز كل حدود أخلاقية والى ما يقع خارج كل منظومة معروفة للقيم. لا يحول بينه وبين ارتكاب أعنف الجرائم أو اكثرها انحطاطاً غير خشيته من الانكشاف أو إلحاق الضرر بنفسه وبالجهة السياسية التي ينتمي اليها. في غضون ذلك، لا بأس من استخدام الكذب والتدليس والتزوير الفاضح وقتل الخصوم، مادياً ومعنوياً، خدمة لما يعتقد أنه هدفه الأسمى: نصب نفسه فوق رقاب الناس.
اعترف ميشال سماحة امام المحكمة العسكرية الدائمة الناظرة في التهم الموجهة اليه، وأبدى الندم. لكن السؤال الحقيقي، هل كان ليتقدم ويعترف ويتلو فعل الندامة لو قيد للتفجيرات التي خطط لها ان تقع وتودي بمن كانت تستهدفهم وتؤدي الى الاضطراب الذي كانت ترمي اليه؟ الأرجح ان لا. ليس لعلة شخصية في المتهم، بل لأن ارتكاب الجرائم ومراقبة عواقبها بل التنديد بها، عادة راسخة بين السياسيين في بلادنا.
لقائل ان يقول ان التشخيص المذكور ينطبق على السياسيين في كل انحاء العالم وان السياسة والاخلاق لا يلتقيان إلا في الظاهر وفي الحملات الانتخابية والدعاية الموسمية. وهذا صحيح. لكن ثمة حدود لا يمكن إغفالها، ذلك ان السياسة في الدول الديموقراطية تقوم وتتأسس على النأي عن العنف.
ومنذ القرن السابع جرى إيكال الدولة وسلطتها التنفيذية ممارسة العنف ضمن الاطر التي يتواضع المجتمع عليها. تجاوز هذه الأطر لخدمة غاية سياسية يتعارض ليس مع المبادئ الاخلاقية التي يمكن أن تحتمل الف تأويل وتأويل، بل مع صميم معنى الدولة كجهة مكلفة بإحلال السلم الاجتماعي وكمرجع في ادارة الخلافات من دون لجوء الى العنف.
يكشف سلوك سماحة، الموثق باعترافه – وهذا سيد الأدلة، على ما يقال – البون الشاسع بين السياسة كما يمارسها اللبنانيون والعرب كخدمة تصل الى حد الانسحاق الكلي امام «صاحب الأمر» والنهي والمال والقادر، ضمناً، على سحب الحياة من أجساد خصومه. انه مفهوم بدائي للعمل العام، يقوم على الارهاب والترويع والاخضاع، وإن غطاه أصحابه بادعاءات ثقافية وحداثية ونخبوية.
غني عن البيان أن سماحة ليس الممثل الوحيد لهذا المذهب في السياسة، على ما بينت السطور اعلاه. ومفهوم ان لبنان ليس الساحة الوحيدة في هذا المشرق الذي يستعين فيه السياسيون بالعبوات الناسفة لاختلاق الفاعلية وتغيير الواقع بدلاً من مخاطبة الناس ومصالحهم والعمل معهم وهم أحياء وليس دفعهم الى التقاتل. ما زلنا نقيم في بيت بعبوات كثيرة.