ليس غريباً أن يشعر الرئيس السابق علي عبد الله صالح بضرورة مغادرة قطار التحالف مع الحوثيين. يعرف جيداً أن القطار يصطدم في الداخل بوعورة تضاريس التركيبة اليمنية وفي الخارج بموازين قوى يستحيل الانقلاب عليها. ما قاله يعبّر بوضوح عن قناعة طيف واسع من الشعب اليمني أن المغامرة الحوثية تدفع البلاد من هاوية إلى هاوية، وأن الحوثيين ليسوا في وارد الانخراط في مشروع يتضمن قيام الحد الأدنى من الدولة، وأنهم من مدرسة الميليشيات التي لا تقيم وزناً لحدود المكونات في الداخل، ولا لحدود البلاد في الخارج. يعرف أن الحوثيين تحولوا في اليمن إلى ميليشيا جوالة بين المحافظات، وتحولوا على الحدود إلى مشروع اشتباك دائم.
محاولة علي صالح مغادرة القطار ليست غريبة. الغريب أنه أقام في هذه الرحلة أكثر مما كان متوقعاً. لا يحتاج علي صالح إلى مَن يشرح له برنامج القيادة الحوثية الحالية. لا أحد يعرف القصة أكثر منه. يعرفها من سلسلة الحروب التي خاضها ضدهم، ومن الهدنات التي اضطر إلى إبرامها معهم. يعرف قصة التغيير الذي طرأ على أفكارهم وقاموسهم وقصة «المستشارين» الذين وفدوا إلى مناطقهم، وقصة التدريبات التي تابعها بعضهم في أنحاء أخرى من «الهلال الإيراني».
أدرك صالح أن وجوده في القطار تحول خسارة متزايدة له ولـ«المؤتمر الشعبي العام»، وأن الحوثيين يستفيدون من الغطاء الذي يوفره رصيده ورصيد حزبه لاستكمال رحلة قطارهم الذي يتحرك على التوقيت الإيراني. يدرك صالح أيضاً أن ردود الفعل التي ظهرت إثر استهداف السعودية بصواريخ حوثية – إيرانية تظهر أن المشروع الحوثي هو انتحاري بطبيعته. وعلي صالح يملك براعة المناور لا تهور المغامر. وهو رجل يرصد بدقة موازين القوى وتحولاتها، وليس من عشاق الاصطدام المتكرر بالجدار. علي صالح رئيس سابق لكنه خبير دائم. خبير بتعرجات الواقع اليمني. والتوازنات بين الدولة والقبيلة. وبين القبائل نفسها. وبين الشمال والجنوب وداخل الجزأين أيضاً. ولهذا أدرك أن حكم الحوثيين تحول عبئاً على البلاد والعباد معاً.
وليس ثمة شك في أن انفكاك التحالف بين صالح والحوثيين يشكّل تحولاً مهماً على الصعيدين الميداني والسياسي في الأزمة اليمنية.
لا يكفي أن تلتهم السلطة مستفيداً من تصدعات داخلية وتحريض خارجي. ومن عادة السلطة أن تعود إلى التهام من حازها بأسلوب الكسر والخلع، ثم إن غابات البنادق لا تعوض الافتقار إلى الشرعية. والشعارات الطنانة لا تنجح في إخفاء الافتقار إلى برنامج يليق بدولة. ثمة فارق كبير بين المسلحين التائهين في شوارع العواصم والقرارات التي يُفترض أن تخفف آلام الناس لا أن تضاعفها.
لا يكفي أن تستولي على قصر الرئاسة. ووزارة الدفاع. ووزارة الإعلام. وترسانة الحرس الجمهوري. الناس هم مصدر الشرعية وليس الأبنية. وأول شروط الشرعية أن تأتي من قاموس الناس لا من قاموس غريب على طبيعتهم وانتماءاتهم وجذورهم. وتقول التجارب إنه ليس من حق أقلية أن تفرض سلطانها بالقوة، وأن تفرض لونها على مجتمع يتمسك بلونه. وإنه ليس من حق من يلتهم السلطة في غفلة أن يدفع الناس إلى مغامرات باهظة في الداخل والخارج. مغامرات تحول البلد حطباً في الحريق الإقليمي وتنزل أفدح الخسائر خصوصاً بمن تدعي التحدث باسمهم وتزعم رفع الظلم اللاحق بهم.
أهم ما كشفته الأحداث الحالية في صنعاء هو أن ما عاشته هذه المدينة منذ اقتحام الحوثيين لها في 21 سبتمبر (أيلول) 2014 كان غريباً ومخيفاً ومصطنعاً وبلا جذور حقيقية. لنترك جانباً اتهامات من أدركوا باكراً طبيعة التحرك الحوثي. يكفي الالتفات حالياً إلى الاتهامات الموجهة إليهم من قوى شاركتهم وحالفتهم ثم اكتشفت خطورة استمرار الخضوع لهيمنتهم. لا جدال في حق الحوثيين في أن يكونوا مكوناً حاضراً في المعادلة اليمنية وأن يحصلوا على الحقوق العائدة لهم أسوة ببقية اليمنيين. تبدأ المشكلة حين يقرر الحوثيون اقتياد البلد إلى لغتهم وأسلوبهم ومنطق الميليشيات الذي يتحدى المكونات الأخرى في الداخل ويتحدى علاقات اليمن الطبيعية بالخارج.
فتحت القيادة الحوثية أبواب التدهور على مصراعيها منذ انقلابها على الشرعية. أطلقت في الداخل عملية استباحة لموازين وقواعد وأعراف دأب المجتمع اليمني على احترامها حتى في أحلك ظروف الانقسام. أما على الحدود، فقد فتحت القيادة الحوثية الباب لتدهور آخر حين لم تترك للسعودية غير خيار الذهاب إلى الحرب. والحقيقة أن الطلقة الأولى في هذه الحرب كانت استيلاء الميليشيات الحوثية على ترسانة صاروخية يمكن استخدامها لتهديد أمن الدول المجاورة وابتزازها أو محاولة زعزعة استقرارها. زاد في خطورة الطلقة الأولى انكشاف طبيعة الميليشيا الحوثية وانكشاف تبعيتها الكاملة لإيران. هكذا بدت الترسانة في أيدي الحوثيين خطوة إضافية ومتقدمة في برنامج يرمي إلى تطويق السعودية وإبقاء أراضيها تحت تهديد دائم. وكان من الصعب على السعودية ترك جارٍ مغامر ومتهور يتحكم في آلة إيذاء وتهويل يمارس دوره في سياق برنامج الانقلابات المتلاحقة الذي تديره طهران فكانت الحرب. وبهذا المعنى فإن مسؤولية «ما حصل في اليمن وما حصل لليمن» تقع قبل كل شيء على القيادة الحوثية، ومن وفّر الوقود لمحرك مغامرتها المدمرة في الداخل والخارج.
طالت المعارك أم قصرت فالنتيجة معروفة. لا بد من العودة إلى الحقائق اليمنية. حقائق الحوار والتعايش ومظلة الدولة. موقف الشرعية اليمنية والتحالف الداعم لها عبّر عن رغبة أكيدة في إنهاء الحروب وعودة اليمن إلى الحقائق اليمنية. لا يدار اليمن من صعدة. ولا تدار صنعاء من طهران. قطار الحوثيين مثقل بالألغام التي تنفجر تباعاً باليمن وبركاب القطار أنفسهم. لا بدّ من العودة إلى اليمن ومغادرة دور إقليمي يفوق طاقتهم وقدراتهم. لا بدّ من العودة إلى الخريطة اليمنية والشروع في برنامج لتضميد العلاقات بين المكونات اليمنية وتضميد علاقات اليمن بجيرانه.