في حين تتضرر الشركات الغربية الكبرى بشدة من العقوبات الأميركية على إيران، بعد خسارتها لاستثماراتها ومبيعاتها هناك، يبدو الأمر مختلفاً بالنسبة إلى بكين، التي باتت تمتلك سجلاً حافلاً في الإتجار بأزمات الدول.
فالصينيون أصبحوا يمتلكون براعة شديدة في استثمار الفراغات التي تصنعها الولايات المتحدة، بحيث لم يعد لسلاح العقوبات الاقتصادية التأثير السابق نفسه، في تغيير سلوك الدول، فلطالما كانت بكين حاضرة باستمرار طوال الفترة الأخيرة، تمد يد العون إلى الدول المغضوب عليها أميركياً، وتمدها بالاستثمارات والتكنولوجيا بل والدعم السياسي والديبلوماسي، واستخدام حق النقض (الفيتو) في مجلس الأمن لصالحها، كما حدث مع نظامي كوريا الشمالية وميانمار، وفي المقابل حصدت الصين مكاسب سياسية واقتصادية هائلة من جراء تلك السياسات.
وفي الحالة الإيرانية اهتبل الصينيون الفرص كافة ببراعة يحسدون عليها؛ ففي فترة العقوبات السابقة، استمروا في العمل سراً مع طهران اتباعاً لاستراتيجية تهدف لتشتيت قوة واشنطن عبر دعم الدول التي تمثل تحدياً لنفوذ الولايات المتحدة، وراوغت شركاتهم منظومة العقوبات الأميركية. فعلى سبيل المثال كانت مدينة داليان الصينية، التي تضم مخازن ضخمة للنفط، هي منصة تصدير النفط الإيراني للدول الآسيوية ككوريا الجنوبية والهند، واستمرت الشركات الصينية في أعمال تطوير البرنامج الصاروخي، ما أوقع عدداً من تلك الشركات تحت طائلة العقوبات الأميركية، عام 2014، وتعرض عدد من رجال الأعمال الصينيين للملاحقة.
وعند توقيع الاتفاق النووي ورفع العقوبات في 2015، دشنت بكين خطة علاقات تعاون موسعة بين البلدين لمدة 25 عاماً، وتضاعف التبادل التجاري بين البلدين، وتوسعت الاستثمارات الصينية داخل إيران، وظهر التعاون العسكري إلى العلن، وازداد حجمه. وعندما أعلن الرئيس الأميركي دونالد ترامب، انسحابه من الاتفاق النووي، في الثامن من أيار (مايو) الماضي، وقرر إعادة فرض العقوبات على طهران، سارت بكين في الاتجاه العكسي، وضاعفت من تعاملاتها التجارية مع إيران، فبعد يومين فقط من الخطوة الأميركية، تم افتتاح خط جديد للسكك الحديد لنقل البضائع، يربط بين مدينة بايانور في منطقة منغوليا الداخلية شمالي الصين، وبين مدينة طهران، وبعد يومين آخرين استقبلت بكين وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف، لتكون أول عاصمة يزورها بعد قرار ترامب.
وفي حين تتابع هروب الشكات العالمية الكبرى من السوق الإيرانية قبل حلول موعد فرض العقوبات، ازداد توافد الصينيين عليها، ما عزَّز المخاوف من احتكارهم لهذه الأسواق، مع تزايد حاجة الإيرانيين إليهم في تلك الظروف، وترسيخ مكانة بكين كأكبر شريك تجاري لطهران، وأكبر مُصَدِّر لها وأكبر مستورد منها، فمثلا عندما انسحبت شركة توتال الفرنسية من حقول منطقة بارس الجنوبية، أخذت شركة صينية حصتها كاملة، وعاد النفط الإيراني ليتدفق على صهاريج داليان، استباقاً لفرض الحزمة الثانية العقوبات في الخامس من تشرين الثاني (نوفمبر) الجاري، والتي للمفارقة تم استثناء بكين منها والسماح لها بمواصلة استيراد النفط من إيران لفترة من الوقت إلى أن تستطيع دول أوبك إمداد السوق العالمية بكميات تعوض انقطاع ثالث أكبر دولة في المنظمة عن التصدير، منعاً لارتفاع أسعار برميل البترول إلى مستويات قياسية. وبدا ارتياب واشنطن من الدور الصيني في إيران جلياً، في الحزمة الثانية من العقوبات، والتي شملت إلى جانب النفط والمصارف، حظر التعامل مع الموانئ، إذ تم استثناء ميناء تشابهار المطل على بحر العرب، الذي تتولى الهند إدارته وتطويره، خوفاً من أن ترضخ طهران لرغبات الصين في إحلال شركاتها محل الهنود في إدارة الميناء الاستراتيجي، بعد تعثرهم وتلكؤهم في المشروع، وهو السيناريو الذي سيؤدي -حال حدوثه- لاحتكار الصين للهيمنة على الجانب الشرقي من مضيق هرمز، بعد سيطرتها على ميناء جوادر الباكستاني القريب من المضيق، فجاء هذا الاستثناء بمثابة دعم للهند في منافستها مع التنين الأصفر.
وفي حين يعلن الأميركيون أنهم يهدفون من تلك العقوبات في الأساس لإجبار نظام الملالي على إعادة التفاوض معهم للخروج باتفاق جديد يتضمن بنوداً تحد من قدرات برنامج الصواريخ الباليستية الذي يهدد الأمن الإقليمي والدولي، تواصل الصين تعاونها مع طهران، في تطوير تلك القدرات الصاروخية التي أزعجت واشنطن، وتستضيف علناً الباحثين الإيرانيين لتدريبهم على التقنيات الجديدة في مجال الفضاء والصواريخ، تحت مسمى التعاون العلمي والأكاديمي بين البلدين. تدرك بكين أن تعاملها مع الدول المنبوذة، والتي لديها خيارات محدودة، يعطيها فرصاً ذهبية، ويعزز قدراتها على توسيع قاعدة نفوذها حول العالم، على حساب النفوذ الأميركي والغربي