يشتكي اللبنانيون من أمور ثلاثة تتعلق بالدولة والمصير الوطني: أولها أن الزعامات يتوارثها الأبناء دون ما يبرر الكفاءة لدى الأبناء، ثانيها أن الدولة غائبة أو غير مهم اعتبار غيابها في وقت يشدد الجميع على الوطنية، ثالثها أن السلطة عاجزة عن حل المشاكل الملحة التي يواجهها المجتمع اللبناني.
÷ أولى هذه المشاكل تتلخص في أن الزعيم ما كان ممكناً أن يتصرف براحة ويدرب ابنه أو وريثه على العرش لو لم يشعر أنه يستطيع أن يتصرف بأتباعه كما يشاء. هذا الاعتبار يفترض أن الأتباع ينقادون كالقطيع أمام الزعيم ويتقيدون بأوامره. لم يكن الزعيم ممكناً لولا أن الناخبين قطيع بالدرجة الأولى. لا يتحرر الناس من هويتهم الجمعية وهي الطائفية؛ لم يتجاوزوها إلى الفردية، لم يتحول اللبناني إلى مواطن فرد يناقش قضاياه الأساسية ويواجه الزعيم بها ويبني حكمه على الزعيم انطلاقاً من القضايا لا من التبعية الغريزية. الزعيم يسعد لذلك فيتصرف مع الأتباع وكأنهم قطعان، وهؤلاء يستسلمون كأنهم قطعان ينفذون أوامر الزعيم مهما كانت غير موافقة وبدت لا عقلانية. وفي النهاية يكون انتماء الشخص للطائفة ولجماعة الزعيم لا للدولة. لولا القطيع لما كان الزعيم.
÷ ثانية هذه المشاكل، أن الدولة «غائبة»، ولو لم تكن كذلك فمن الواجب الانفصال عنها؛ بالطبع ليس الانفصال عن الوطن بل عن الدولة. يميز هؤلاء بين الدولة والوطن، ولا يعطون الأولوية للدولة، تبقى الدولة كياناً غريباً. ويصير الوطن (كنظام للدولة هو المعتبر). لا يحاكم القائلون بذلك بالخيانة، بل يعتبر كلامهم أساساً للتحريض السياسي. لا يعي هؤلاء أن الكيان الوحيد المعترف به هو الدولة لا الوطن، وأن الفرد لا يصير فرداً إلا في إطار الدولة، لا يتحرر إلا كفرد في الدولة (مهما كانت مظالم النظام، وهي كثيرة). لا يتحرر الفرد إلا عندما تتشكل الدولة من أفراد، كل فرد يقرر مصيره الشخصي خارج الطائفة ويتناقض معها. بمقدار ما يتحرر الأفراد من طوائفهم، ينتمي هؤلاء إلى الدولة، وهي بدورها تصير منهم ولهم. في هذه الحالة، يستبطن الفرد الدولة. تصير هي جزءاً منه. يصير الولاء لها وحدها، تصير الطوائف منظمات خاضعة للدولة، تتنافس في إطار الدولة، لا ضدها ولا خارجها. لا تتحقق الدولة إلا عندما تتشكل من مكون وحيد هو الفرد، لا من مكونات هي الطوائف. بالفردية يستقيم أمر الدين ويستقيم أمر الدين. يصير الدين فردياً لا طقساً جماعياً، يصير تجربة روحية لا حركات ميكانيكية تخلو من الوجدان. وتصير الدولة تنظيماً للأفراد أصحاب الرؤى لا المنقادين لطوائفهم.
÷ ثالثة هذه المشاكل هي العجز السياسي الناجم عن الطائفية والزعامات الوراثية، ومحدودية العقل عند أولي الأمر، وعدم القدرة على اجتراح التسويات التي تجعل السياسة ممكنة. ولا تستقيم السياسة إلا بالتسويات وتراكمها. وهذا هو طريق القرار حول مختلف المشاكل والخلافات، مثل أزمة النفايات وغيرها. هيبة الدولة مفقودة أمام الطوائف. استولت هذه على النظام، صار النظام غير الدولة، نظام ومؤسسات للطوائف لا للدولة. انفصل النظام عن الدولة، ضعفت فكرة الدولة وصار بإمكان نائب في المجلس النيابي أن يدعو للانفصال عن الدولة (بالطبع لا عن الوطن) وهو وأمثاله يناضلون من أجل النظام لا من أجل الدولة. تتفق الطوائف مع مفهوم النظام ومؤسساته، لا مع مفهوم الدولة وتجريداتها. الدولة مفهوم مجرد يقتصر على الحدود الجغرافية ومفهوم الولاء الواحد لدى كل الناس، لهذا المجرد المسمى دولة. تتمثل الدولة برئيس الجمهورية، وهذا مغيّب؛ وذلك من أجل أن تستفيد الطوائف من النظام ومردوداته المالية. تستفرد الطوائف بالنظام في غياب الدولة ورمزها الأول. هذا مع العلم، أن وظائف النظام الكبرى والصغرى تتحول إلى مؤسسات للدولة بوجود رئيس للجمهورية، ولو تراكمياً.
الأمور الثلاثة التي يشكو منها اللبنانيون مترابطة متشابكة. يتشوش وعي اللبنانيين. لذلك تراهم يعتبرون الدولة كياناً غريباً (يعتمد وجودها على القوى الأجنبية، فيمعن اللبنانيون في تحليل مواقف القوى الإقليمية والدولية من أجل سد الفراغ)؛ ويضطرون إلى الانسياق وراء طوائفهم وزعمائها وأولادهم وأصهارهم خوفاً على «الحقوق» ومن تفوق موهوم للطوائف الأخرى؛ ويعجزون عن القرارات السياسية التي تؤدي إلى حل المشاكل الاجتماعية والاقتصادية. ولذلك فضلت المصارف تشكيل قطاع منفصل عن النظام وآلياته لعلها تستطيع حل مشاكلها بنفسها وجني الأرباح الطائلة.
يبقى النظام اللبناني ضعيفاً لغياب الدولة، بسبب أبنائه ووعيهم لا بسبب قوى خارجية، مهما كانت قوية جبارة. يعتمد الخلاص على اللبنانيين وحدهم، إذا قرروا، وكم من دولة بحجم لبنان استطاعت أن تحقق استقلالها وأن يكون لأبنائها القرار، كما استطاعت أن تكون لها هيبة القرار والحل للمشاكل الداخلية.
على نفسها تجني براقش.