لم تصل العلاقات بين لبنان ودول الخليج العربي، وخصوصا مع المملكة السعودية، الى هذا المستوى من التأزم الذي وصل اليه منذ ايام قليلة، على خلفية غضب السعودية ودول الخليج من موقف الحكومة اللبنانية من الاعتداء على سفارة السعودية وقنصليتها في ايران، بما اصبح معروفاً، في حين ان العلاقات بين لبنان وسوريا، الجارة الاقرب، مرت منذ العام 1952 وحتى اليوم بالعديد من الاشكالات والازمات والتعديات التي كانت تفتعلها السلطات السورية، لاسباب اقتصادية او سياسية او امنية لمضايقة لبنان، كون سوريا منفذ لبنان البري الوحيد على دول الجوار والخليج، من جهة، ورغبة سوريا الدائمة بوضع اليد على لبنان، الشقيق الاصغر من جهة ثانية، ولا بد في هذه المناسبة من العودة الى الوراء للاضاءة على حالة مشابهة حصلت في الخمسينات من القرن الماضي، عندما طلع نجم الرئيس المصري جمال عبد الناصر، وبدأت الناصرية تغزو عدداً من الدول العربية ومنها لبنان، وحصلت الوحدة بين مصر وسوريا، وكادت تحصل مع العراق والاردن، واجتاح بعدها الجيش المصري دولة اليمن اثر انقلاب قام به ضابط يدعى عبد الله السلال، ونشبت حرب اهلية بين جماعة الامام المخلوع وبين قوى السلال، فتدخلت مصر لنصرة السلال، وتدخلت السعودية لنصرة الامام، ومن اللافت ان المسلمين في لبنان باكثريتهم وقفوا يومها الى جانب مصر ضد السعودية، مع اليساريين والحركة الوطنية، في حين وقف المسيحيون باكثريتهم الساحقة الى جانب السعودية، بكل قوة، اولا لان المسيحيين الحريصين على استقلال لبنان وسيادته وخصوصيته، كانوا خائفين من ان يجرفهم المد الناصري الوحدوي الذي كان بدأ يدق ابواب لبنان، وثانيا وجدوا في السعودية نصراً لهم وحليفاً، لان السعودية اعلنت وقوفها ضد توسع الناصرية اليها انطلاقا من اليمن والامارات المتفرقة والعراق، ولانها فتحت ابوابها امام اللبنانيين وخصوصا المسيحيين منهم، نظرا لخبرتهم وعلمهم وسعة مداركهم – ولان المسؤولين اللبنانيين على الرغم من صداقتهم في تلك الايام مع نظام عبد الناصر، وعلى الرغم من ان سفير مصر في لبنان، عبد الحميد غالب، كان قادراً بقوة نفوذه على منع اعدام شخص حتى ولو كان على حبل المشنقة، عملوا ما يفترض بهم ان يعملوه، للمحافظة على مصلحة لبنان وعلى مصلحة اللبنانيين في السعودية والخليج ولم يأخذوا موقفا مغايراً او مواجها للموقف العربي الذي الزم مصر بالانسحاب من اليمن، وترك الشعب اليمني يقرر مصيره بيده.
* * *
كان دائماً لبنان يلتزم بسياسة مرنة وحكيمة تجعلها مقبولة عند جميع الدول العربية بالرغم من خلافاتهم العميقة، حتى في عهد الرئيس الراحل الياس الهراوي، وهو المعروف بعلاقته اللصيقة بالنظام السوري، كانت الخارجية اللبنانية «تسير بين النقط» لعدم اغضاب اي دولة عربية، ولم تتبدل هذه السياسة الا في عهد الرئيس اميل لحود، وتحسنت في عهد الرئيس ميشال سليمان، مع بعض الخروقات التي كانت تفرضها القوة القاهرة على الحكومة.
عندما كان لبنان باوج قوته الاقتصادية والمعيشية، والسيادية، استمر محافظاً على علاقاته العربية، من دون عقد وتزلف، ودونية، وعندما اصبح على ما هو عليه اليوم من وهن وعجز، وفقر وانتقاص في سيادته، يجب ان يستمر محافظاً على علاقاته العربية. وصداقاته مع جميع الدول، وخصوصا تلك التي لا تتدخل في شؤونه الداخلية وتملي عليه مواقفها ومصلحتها، وهذا ما تفعله دول الخليج، وكذلك من دون عقد وتزلف وانتقاص من السيادة والكرامة، ومن دون دونية بالتعامل مع اي كان المهم ان تكون المصلحة الوطنية هي المعيار الذي يلزم كل حكومة وكل وزير.