يحلو لاحد السياسين ان يصف المشهد السياسي في اعقاب ازمة سحب الهبة السعودية بـ «العصفورية» التي فلت مرضاها المجانين بدون ضوابط وبدون ان تنفع معهم العلاجات التي تلقوها ، فالاجراء السعودي اربك الجميع واصاب الحلفاء والاخصام فراح المتموضعون في الاصطفافات السياسية الجديدة الى حيث كانوا سابقاً فيما اختار بعضهم الصمت بانتظار ان تمر الغيمة بسلام ، فلا يمكن مثلاً تفسير كيف ان سمير جعجع الذي انجز تفاهماً مسيحياً ومصالحة مع ميشال عون الى حد تسميته رئيساً ينبري ليدافع عن قرار وزير الخارجية العوني الذي تحمله السعودية مع حزب الله مسؤولية تدهور العلاقة ، فاذا بجعجع يحاول «تهريب» جبران باسيل في بيان بيت الوسط متهماً حزب الله وحلفائه بتوريط لبنان بالأزمة مع السعودية ، فيما المفارقة الاخرى ان حلفاء حزب الله الذين تهاجمهم بيانات 14 آذار والحريري احدهم مرشح المستقبل سليمان فرنجية والذي قبلت السعودية ووافقت على ترشيحه .
هي فعلاً «العصفورية» كما يرى السياسي التي خلطت الاوراق وعرت السياسيين من التزاماتهم فعاد بعضهم الى المواقع التي كان فيها في السابق كما فعل سمير جعجع الذي حاول استرضاء السعودية بعد خطوته مع الرابية من باب الهبّة للهجوم على حزب الله ، فيما اختارت بنشعي التزام الصمت وعدم التصعيد تفادياً للاحراج ، وعمد تكتل الاصلاح والتغيير الى الالتزام بالوحدة الوطنية بدل الاجماع العربي ، فيما بدت الكتائب الاكثر تصالحاً مع نفسها في التعاطي مع المسألة وهي التي رفضت مرشحين من 8 آذار ولا احراج لديها في انتقاد من تريد .
صحيح ان التصعيد السعودي بلغ سقفه الاعلى ضد لبنان ، سحب الهبة للجيش ، طرد وعدم تجديد اقامات ، ضغط على الامارات والكويت وقطر لركوب موجة التصعيد في لبنان ، الا ان الواضح ان الاجراءات السعودية لم تصب فريقاً معيناً محدداً بل الجميع تؤكد مصادر متابعة، بمن فيهم حلفائها الذين اصيبوا بالارباك والاحراج ، فانعكس الامر ارباكاً في التعاطي مع المسألة ، فالتصعيد السعودي لا يمكن ان يكون ظرفياً او عابراً بل ذات صلة بكل الملفات وما سيحصل على الساحة في المرحلة المقبلة ، ووقف الهبة المخصصة للجيش والقوى الامنية استهدف المؤسسة العسكرية اكثر مما اصاب حزب الله لأن الجيش هو على تماس مباشر مع الارهابيين وهو بأمس الحاجة للعتاد العسكري ولتسييل تلك الهبة سلاحاً في معركته مع الارهابيين . وفي حين ان الكتائب عبر وزير الاقتصاد آلان حكيم قال: بان «لا داعي للاعتذار لاننا لم نخطىء ، فان وزير العمل سجعان قزي اعتبر ان السعودية دولة صديقة ولكن لتأخذنا بحلمها ، فالواضح ان الكتائب تبدو اكثر تحرراً من الآخرين الذين لديهم التزامات معينة ، فالكتائب رفضت مرشحي 8 آذار ورئيسها يبدو مرتاحاً للجلوس الى جانب سعد الحريري في بيت الوسط وفي «البيال»، في حين ان للقوات التي انجزت المصالحة المسيحية مع الرابية حسابات مغايرة اخرى جعلت معراب تصوب على حزب الله وتسعى الى تبرئة وزير الخارجية من تهمة تخريب العلاقة مع المملكة واضعاً اللوم كل اللوم على الحكومة التي يفترض ان تحدد سياستها الخارجية ، فالقوات حملت الحكومة المسؤولية وحدها ودافعت عن باسيل وفي ذلك قراءة لمتانة التفاهم بين معراب والرابية وعدم سقوطه عند اول استحقاق ، والواضح ان سمير جعجع تضيف المصادر، عمل على الفصل بين تفاهمه الثابت مع الرابية وعلاقته مع السعودية ، فهو يدرك ان تسمية عون وترشيحه في معراب لم يعجبا المملكة لكنها تفهمت الى حد ما طبيعة الخيارات التي لجأت اليها معراب تحت وطأة تسمية فرنجية من قبل سعد الحريري ، والمملكة نفسها بحسب ما بات واضحاً لم تهضم تهجم الحريري من منبر «البيال» على حليفه المسيحي في معراب فاقتضى التصويب في حينه بأمر عمليات من السعودية للحريري ، وبالتالي فان هجوم جعجع على حزب الله بدون شك اربك الرابية لكن معراب تحاول عدم الربط والزج بعلاقتها مع عون وبالنظرة الى حزب الله ، وبالتالي فان ما قاله رئيس القوات والذي يتماهى مع الموقف السعودي هو اكثر ما تريد ان تسمعه السعودية من المسيحيين الذين اختار بعضهم النأي بالنفس او تفسير الاجراء السعودي في خانة الخطأ الذي لا يجرؤ بعضهم على البوح والتشهير به ومهاجمته .
وفي كل الاحوال يرى العارفون ان الاجراءات السعودية التي ربما لن تتوقف قبل توتير الاجواء اللبنانية اكثر وممارسة الضغوط وربما ستؤدي لاحقاً الى تفجير الوضع اللبناني برمته والى تغيير الكثير من المعادلات الداخلية بعد ارتفاع منسوب التوتر الداخلي بين حزب الله والمستقبل ، وبعد تأكيد وزير الداخلية نهاد المشنوق ان « الآتي اعظم» ، وبان ثمة تابعاً للاجراءات السعودية لاخضاع لبنان ، وبان عودة الحريري لم تكن قراراً عابراً بل مدروساً من المملكة لادارة الأزمة «على الارض « بعد تراجع الدور السعودي في لبنان وبعد ان تراجع حضور الحريري في الساحة الداخلية.