«أحد علائم الجنون هو تكرار الأمر نفسه دون تعديل، وتوقع نتائج مختلفة»
(ألبرت أينشتاين)
غريبة عجيبة تلك العلاقة الملتبسة التي تربط أحياناً أطرافاً معادية لبعضها البعض! فمن الطبيعي أن ينعت العدو بكل الصفات السيئة من خبث وكفر وعنف وإرهاب وإباحية… إلى ما هنالك من صفات لا حصر لها في فن الهجاء. لكن في ذلك الوقت نرى الضحية ترسم لعدوها صورة إضافية هي حسن التنظيم والقدرة على الإقناع وحسن التدريب والإنضباط والقدرة على التضحية من أجل الفكرة التي يقاتل أفراده من أجلها.
في الواقع، ليست هذه الظاهرة وليدة الحاضر فقط، فلطالما تماهى المتخاصمون بما يظنون أنه سبب تمايز أعدائهم عنهم. فقد تكون اللغة والفكرة والثقافة أحياناً، ونوع السلاح والتنظيم والقدرات القتالية… كما أن بعض قادة الماضي ظنوا أن آلهة الآخرين هي أقوى من آلهتهم فقرروا اعتناق ديانات جديدة أملاً في النصر. ويكفي هنا أن أعطي مثل الإمبراطور «قسطنطين» عندما قيل أنه حوّل إمبراطوريته إلى المسيحية لينتصر في معركة روما الحاسمة للإسيلاء على الإمبراطورية، وكيف اعتنق «كلوفيس» الفرنكي ديانة زوجته المسيحية لينتصر هو أيضاً في معركة يائسة، لتصبح فرنسا أول دولة كاثوليكية في أوروبا بعد روما.
ما لنا ولكل هذا الحديث الآن، فالمهم هو الحاضر، لكن الماضي هو بالتأكيد الاب الشرعي للحاضر، مهما حاول البعض تغطية التاريخ بالأساطير لإخفاء الحقائق.
السؤال كيف تسبب «حزب الله» ومشروع ولاية الفقيه بتمادي ظاهرة الإرهاب التكفيري اليوم؟
لا يمكنني تناسي ردّ فعل بعض أبناء مدينتي طرابلس، عند ظهور «النصرة»، ومن بعدها «داعش»! لقد صرح الكثيرون منهم بأن السبيل الوحيد لصد التطرف الشيعي المتمثل بـ «حزب الله» في لبنان، والميليشيات الشيعية هنا وهناك، هو بوجود تنظيم سني الهوى أشد بأساً وأكثر صلابة وتوحشاً لينتصر على التوحش الشيعي. بالنسبة لي كان هذا الكلام اسوأ ما سمعته، فمن خلاله أيضاً رأيت المستقبل وهو أن يتهم من هم مثلي بالخيانة والعمالة والكفر، وقد يظهر من يقول بأننا سنّة السفارة، وربما سفارة إيران؟!
المهم في الموضوع هو أن الإنطباع لدى عموم الناس هو اصدق بالنسبة لهم من الوقائع المثبتة والتحليل العلمي، والغوغاء تؤثر في الفكر الجماعي أكثر بكثير من الفكر الصافي المتعقل.
ولكن كيف لي أن أستنتج من كل هذا مسؤولية «حزب الله» عن استفحال ظاهرة التطرف؟
بالوقائع، فإن مشروع ولاية الفقيه الحديث استقى الكثير من مكوناته الفكرية من اجتهادات سنية مثالها الأول «أبو الأعلى المودودي» الهندي وأهمها سيد قطب، وهو يعد مرجعية كبرى بالنسبة لفلسفة العنف المرتبط بفرض الشرع الإسلامي على البشرية جمعاء. ومن المفيد معرفة أن الكتب الدينية السنية الوحيدة التي ترجمتها دولة ولاية الفقيه إلى الفارسية كانت كتب سيد قطب.
لقد شكل نجاح الإمام الخميني في إنشاء دولته ذات المرجعية الدينية، حدثاً كبيراً على المستوى السياسي ألهم الكثيرين من دعاة نصرة «حاكمية الله». لقد بشّر بإمكانية إنشاء أو فرض دولة تستند بالكامل إلى شرعية مقدسة، تتجاوز تعقيدات الفلسفة السياسية والدراسات الإقتصادية والحقائق العلمية.
من هنا فقد فتحت شهية مجموعات سنية للسعي إلى تحقيق نسختهم من الجمهورية الإسلامية. وعلينا الإعتراف بأن بعض هذه المحاولات نجحت، وإن بشكل أكثر عصرية كما حصل في تركيا، وفشلت بعد نجاح مؤقت كما حصل في مصر وتونس، ولا تزال قيد المحاولة في أماكن أخرى.
ما لا يفهمه البعض هو أن أكثرية الحركات المتطرفة تصف نفسها أساساً بأنها إصلاحية، أتت لتغيير واقع سيئ من خلال تدميره والعودة إلى نقطة الإنطلاق النقية الصافية، والتي تستند في معظمها إلى التقاليد الكلامية والأساطير المتوارثة والمقدسة.
ولو راجعنا تاريخ الغالبية العظمى من هذه الحركات لتأكدنا أنها دائماً تلجأ إلى نوع من الإرهاب لرسم حدود وجودها، ودفع الآخرين إلى الإعتراف بها، حتى ولو من خلال الخوف منها.
حزب الله، ومشروع ولاية الفقيه، هما أحد هذه الأمثلة، ففي البداية عمليات سرية وتفجيرات واغتيالات، تطال العدو البعيد والمنافس القريب، ومن هذه النقطة، قد تكون الفرصة التاريخية سامحة لتطوير الوجود، فتتحول الفكرة إلى تنظيم والتنظيم إلى دولة معترف بوجودها، بعد أن تدخل في تسويات مع العالم. وهذا بالضبط ما حصل لإيران الولي الفقيه وأدواته.
أبو بكر البغدادي كان في حسبانه السيناريو ذاته لدولته، لكن دورها انتهى بسرعة، فيما بقي دور إيران وأدواتها جزءًا من التوازنات الدولية.