لم يشأ الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله في خطابه الأخير الذي القاه في يوم القدس العالمي الغوص في الشأن اللبناني الداخلي وتحديداً في الأزمة السياسية الحكومية التي بدأت أزمة تعيينات وتحولت إلى أزمة صلاحيات. وانما آثر الاكتفاء بالدعوة إلى تفهم مطالب العماد ميشال عون واخذها بالاعتبار وبدعوة رئيس تيار المستقبل سعد الحريري إلى فتح حوار مع عون والتفاهم معه, كما اعاد السيد نصرالله هذا الكلام منذ يومين وفي مناسبة اخرى عندما قال على تيار المستقبل ان ينزل من برجه العاجي ويلتقي بالتيار الوطني الحر.
هذه الدعوات تنمّ في ظاهرها وشكلها عن إيجابية ومسؤولية ورغبة في ان ينسحب حوار حزب الله مع المستقبل على اجواء البلد وقواه الأساسية، لكنها في جوهرها تهدف إلى أمرين أساسيين: الأول رفع المسؤولية السياسية عن كاهل حزب الله تجاه حليفه السياسي. والثاني الإيحاء بان المشكلة هي مشكلة «سنيّة – مسيحية» وان الحل بالتالي يكون عبر تفاهم القوتين الاكبر عند السنّة والمسيحيين أي «تيار المستقبل والتيار الوطني الحرّ»…
لقد نجح البعض منذ سنوات وإلى حد بعيد في اظهار المشكلة السياسية في لبنان على انها «سنيّة – مسيحية» والقول الى حلفائه المسيحيين ان مشكلتكم السياسية هي مع «تيار المستقبل» تحديداً, وان ما تطالبون به من حقوق مشروعة يُسأل عنها تيار المستقبل, وان ما تشكون منه منذ سنوات من تهميش وضعف وتآكل في الدور والحضور سببه اتفاق الطائف الذي اعطى الطائفة السنية على حساب المسيحيين وأحال صلاحيات رئاسة الجمهورية إلى رئاسة الحكومة، ليصل الأمر إلى خلاصة عند شريحة لبنانية كبيرة مؤداها ان الحلّ لا يكون إلا بالبحث عن نظام سياسي جديد وصيغة بديلة عن « الطائف « .
صحيح ان السنة في لبنان وتحديدآ «تيار المستقبل» ليسوا معفيين مما آل اليه الوضع المسيحي في لبنان وهم يتحملون جزءاً من المسؤولية لأنهم لم يحسنوا إدارة الوضع في مرحلة ما بعد الخروج السوري من لبنان، المرحلة التي بات فيها «تيار المستقبل» الطرف الأكثر تحكماً بمفاعل الدولة ومؤسساتها والاكثر نفوذاً أو تأثيراً متكئاً على قاعدة سياسية شعبية عريضة قامت على دم الرئيس الشهيد رفيق الحريري. فلم يشعر المسيحيون منذ عشر سنوات ان تغييراً فعلياً وجذرياً قد حصل على صعيد استعادة دورهم وحضورهم والمشاركة الحقيقية في الحكم، لا بل شعروا ان الامور لم تتبدل ولم تختلف كثيراً, حتى لا نقول تراجعت الى اسواء عما كانت عليه ايام الوصاية السورية في لبنان .
ومثلما وضع حزب الله كرة الحقوق والمطالب المسيحية في ملعب «تيار المستقبل» والطائفة السنية ، يحاول «تيار المستقبل» في الوقت نفسه اظهار المشكلة على انها «مسيحية – مسيحية» والتعويل عليها لتخفيف الضغط عنه من جانب حلفائه وخصومه وتحويل الانظار عن المشكلة الاساسية وهي الصراع «السني – الشيعي».
وكذلك فان «تيار المستقبل» يعتبر ان مواجهة العماد ميشال عون تقع على عاتق مسيحيي «14 آذار» وتحديدآ «القوات اللبنانية»، وان على «القوات اللبنانية» ان تتصدى لعون وانصاره في السياسة وفي الشارع حتى لا تأخذ المواجهة طابعاً «سنّياً – مسيحياً», وحتى تبقى المشكلة ايضآ في إطارها «المسيحي- المسيحي».
والسؤال الذي يطرح نفسه, كيف يمكن «لتيار المستقبل» ان يطلب ذلك من حلفائه المسيحيين بينما هو لا يمدهم بما يعزز دورهم وحجتهم وينتزع الذرائع من يد خصومهم السياسيين وذلك من خلال تعزيز الوجود المسيحي في الحكم والدولة حجماً ودوراً؟ وكيف «لتيار المستقبل» ان يدفع الأمور باتجاه مشكلة ومواجهة مسيحية داخلية، وتحديداً بين «التيار الوطني الحرّ والقوات اللبنانية» وهما خارجان للتو من تجربة حوار ناجحة أفضت إلى ورقة نوايا ومبادىء وطوت صفحة سوداء وثقيلة في تاريخهما المشترك؟ .
وهنا وإذا كان يصح الكلام عن «إيجابيات» للحركة الاحتجاجية التي قام بها العماد عون وتياره أخيراً امام السراي الحكومي وبالرغم من الملاحظات السياسية وسؤ التقدير الذين رافقا هذا التحرك، فان الشيء الايجابي الوحيد الذي حدث هو تظهير الواقع الجديد في العلاقة بين عون وجعجع والذي يقوم على أسس متينة بحيث لا يكون خاضعاً لظروف ومزاجيات ومصالح متحركة وتكون فيه الأولوية للاتفاق…
وحسناً فعلت «القوات اللبنانية» عندما قررت الاحجام عن اي رد فعل عندما نزل العونيون إلى الشارع، وكذلك حسناً فعل الدكتور سمير جعجع عندما يصرّ على العلاقة الجديدة مع عون ويضعها بين حدّين: الخصومة السياسية الشريفة والتعاون على أكبر قدر من النقاط والمسائل السياسية… ولعل في هذا الحوار الثنائي والواقعي في طموحاته واهدافه الردّ على كل من يحاول ان يظهر الأمور على انها صراع «سنيّ – مسيحي» أو انه صراع «مسيحي – مسيحي».
ان الصراع على أرض الواقع هو صراع «سنّي – شيعي» ولو ما زال في لبنان تحت السيطرة ومقيداً بضوابط وموانع ولكنه في المنطقة خرج من « عقاله « وبات مشتعلاً ومتفجراً ويترجم بشكل دموي وعنيف.
المشكلة في لبنان في هذه المرحلة وأكثر من اي وقت مضى هي ليست «مسيحية-مسيحية» وهي للأسف امتداد لصراع «سنّي – شيعي» في المنطقة لا يستكين إلا بعد تسويات دولية اقليمية تكون (ايران والسعودية) طرفين أساسيين فيها… واي كلام آخر هو للتضليل وحرف الأنظار والمشكلة إلى عناوين جانبية ومعارك وهمية.
هذا ما حصل في معركة رئاسة الجمهورية التي ستبقى عالقة ومعلّقة حتى اشعار آخر ولو حاول البعض القول زورآ ان اتفاقاً مسيحياً حولها يضع حدّاً للفراغ الرئاسي ويفتح الطريق أمام انتخاب رئيس.
فحتى لو سلمنا جدلاً ان المسيحيين سيتفقون على اسم رئيس للجمهورية، فان اتفاقهم لا يكفي إذا لم يحصل توافق «شيعي – سنّي» حول الرئيس الجديد وهذا التوافق متعذرآ طالما ان الصراع في المنطقة لا يزال مذهبيآ بين « السنة والشيعة»…
اليس هذا ما حصل سابقاً ايضآ في موضوع قانون الانتخاب الجديد « القانون الارثوذكسي» الذي اصطدم برفض «سنّي – شيعي» بعدما حصل توافق مسيحي حوله قبل ان يتصدع بفعل الرفض الاسلامي له.
وهذا ما يمكن ان يحصل لاحقاً عند طرح مسألة اللامركزية الادارية والمالية التي وردت في اتفاق الطائف وابرزتها مجددا «ورقة النوايا» بين عون وجعجع. فاذا لم تكن اللامركزية مقبولة من المسلمين فانها لن تشقّ طريقها إلى التطبيق وستكون موسومة بالرفض بحجة انها شكل من اشكال التقسيم.
ان اسواء ما يحصل اليوم انه إذا اختلف المسيحيون فيما بينهم يجري تحميلهم مسؤولية الفراغ الرئاسي وكل الملفات والازمات الاخرى وصولآ الى «مهزلة النفايات» التي تعيشها البلاد اليوم . وإذا اتفق المسيحيون أو ظهرت بوادر اتفاق فيما بينهم يحصل استنفار اسلامي مضاد لتطويق هذا الاتفاق بحجة انه يغذّي فرزاً وطنياً على أساس طائفي «اسلامي – مسيحي»… فكفى اللعب على التناقضات المسيحية لان هذا الزمن ولى الى غير رجعة.
من هنا يجب على شركائنا المسلمين ان يعرفوا ويدركوا ان الدور المسيحي الفاعل والمؤثر يصب في خدمة ومصلحة لبنان الشراكة والوحدة وهذا الدور مرهون ومشروط بان يكون المسيحيون اقوياء لا ضعفاء. وان يكون المسيحيون أقوياء يعني ان يكونوا متفقين وموحدين في الأمور الأساسية وان لا يكونوا «مسيحيين سنة او مسيحيين شيعة»…