حرّر فكرك:
لا تستثني حملة ” النهار ” المحفزة على مغادرة الكسل الفكري والانتفاض مقاربة واقع بات كارثيا تواجهه الصحافة والاعلام في لبنان بل الأحرى ان يبدأ الامر بهما سواء من منطلق الإضاءة على واقعهما بلا تجميل او من حيث تظهير الخطورة غير المتصورة لتراجع الدور الريادي لإحدى أعرق ميزات لبنان التي تجسّدها الحريات الصحافية وإلاعلامية.
قد لا يبالي اللبنانيون ان “اكتشفوا” ان صحافة لبنان تقف على مشارف احتضار متدرج ان طالت كثيراً بعد أزمات الداخل والمحيط. لا يتصل الامر فقط بالصراع الوجودي الذي تخوضه الصحافة المطبوعة في العالم حيال زحف الاعلام الالكتروني والرقمي الذي يفترسها تدريجا ومنهجيا، بل يزاد على هذه المصيبة الكونية أزمات هائلة ضربت الصحافة اللبنانية بل تحاصرها وتهددها وتهدد الصحافيين بمصير قاتم. قبل ايام قررت احدى اعرق الصحف البريطانية “الانديبندنت ” اقفال طبعتها الورقية والتحول نهائيا الى النسخة الالكترونية اسوة بما سبقتها اليها صحف كثيرة. هذا يجري في الغرب فكيف بالصحافة اللبنانية التي كانت غالبا تجسد فعلا احدى أقوى السلطات واللوبيات المعنوية الضاغطة على السلطات السياسية وطبقاتها المتعاقبة وحتى على الاحتلالات، والوصايات. وباتت الان وتحت تداعيات الانهيارات التي تسبب بها الازمات السياسية الداخلية مهددة بفقد التأثير على صناعة القرار السياسي والرأي العام الضاغط بفعل أزمات ومتغيرات لم تتمكن الصحافة من مواجهتها في العقدين الاخيرين، حين بدأت تجتاح لبنان حمى الاعلام المرئي وتبدل اولويات القارئ الكلاسيكي والجديد معاً، ومن ثم حمى الاعلام الالكتروني ومواقع التواصل الاجتماعي. وثمة عامل اساسي لا يمكن التستر عليه في تفحص حالة الصحافة ومآلها الراهن وهو قصور معظم الصحافة وحدها عن تحقيق استقلالية مالية هي الركيزة الاولى والاهم في الحفاظ على استقلالية مهنية، ومن سعى الى الحفاظ على استقلاليته بكل ما يملك من وسائل ذاتية بات مهددا فعلا بمصير قاتم. وثمة عامل ايضا لا يمكن تجاهله هو عدم امتلاك القدرات الهائلة الضرورية التي تتمتع بها الصحافة الغربية في مقاومة المد الالكتروني الزاحف والتي تحتاج الى ما يفوق بأضعاف مضاعفة القدرات الضعيفة للصحافة اللبنانية التي لم تعرف في تاريخها دعما من الدولة ولا كانت نقاباتها يوما على مستوى الاخطار الوجودية التي تتهددها ولا كان الصحافيون يوما يجدون فيها الحصانة الحامية من غدرات الزمان. وتأتي الكارثة الكبرى في السنوات الاخيرة محمولة بجفاف إعلاني غير مسبوق ضرب مجمل دول المنطقة المشتعلة فوق الثورات والحروب الى حدود باتت معها موازنات الإعلانات السنوية في مجمل الصحف اللبنانية لا توازي مردود سنة في صحيفة كبرى قبل هذه الكارثة. وبازاء ذلك ترانا امام صحافة لا تملك الخيار في صراع البقاء الا بمعركة يومية قاسية صارمة تلزم المؤسسات الصحافية الابتكار والالتصاق اكثر فأكثر بكل ما يبقيها حاجة نخبوية وشعبية وقيمية في آن واحد لئلا يأتي يوم تندثر فيه احدى اعرق معالم لبنان الحريات والمعرفة العميقة.
اما في الاعلام المرئي فالمسألة تختلف ولو ان الأزمات تجتاح هذا القطاع ايضا لعوامل عدة من ابرزها الجفاف الإعلاني. يعاني هذا الاعلام في معظمه من أزمة معايير مهنية بفعل التنافس الشديد ولكنه لا يزال يمتلك مخزونا واسعا من الإقبال على مختلف وجوه البرمجات الإخبارية والفنية والاجتماعية. لا توازي أزمة المرئي مثيلتها في المطبوع ولكنها ايضا تتهدد مستقبله خصوصا مع الاهتزاز الكبير في سلم المعايير الذي يؤثر تأثيرا قويا على انفعالات متلقين باتوا متطبّعين مع الكثير من الاستسهال والخفة والاثارة وهي عوامل وان كانت توفر ظرفيا اتساع مساحات التلقي ولكنها لا تؤمن قطاعا بات يضم ألوف العاملين وتتهدده محطات وفضائيات عربية وخليجية وحتى غربية دخلت الاسواق العربية بقوة وتجذب المهارات اللبنانية اليها. لا يعني ذلك بطبيعة الحال التعميم حول المعايير المهنية ولكن الحفاظ على المعايير الجادة المتشددة في رصانتها على محطة تلفزيونية بات يوازي مراكمة الخسائر في بيئة مأزومة داخلية تهوى الإثارة التي اعتادتها.
بين المطبوع والمرئي والمسموع تتداخل ايضا مسألة امتلاك الطوائف والأحزاب والسياسيين وسائل اعلامية وتأثيراتهم الهائلة على معظم هذه القطاعات الحيوية فضلا عن مشاكل التمويل. الا يستأهل الامر محاولات إنقاذية جماعية من هذه القطاعات ولا سيما منها الأكثر تعرضا للاخطار على قاعدة ” أكلت يوم أكل الثور الأبيض”؟