ليس خافياً أي أحوال من البؤس تزداد إنتشاراً في الكثير من أقطار الأمة، وسببها العناد أولاً وثانياً وآخراً. بسبب العناد لا يحدث الحوار الذي ينتهي إلى توافق. هذا يحدث بين أطراف الأزمة في اليمن، وهذا يتواصل بين أطراف الأزمة في لبنان، وهذا لا ينتهي بين أطراف الأزمة في العراق، وأمَّا ما هو حاصل في الصف الفلسطيني فإنه يتجاوز العناد بكثير.وأما الذي يجري في تونس وفي ليبيا فحدث عنه ولا حَرج.
ولا يقتصر الأمر على الحالات التي أوردناها، فهنالك الكثير من الأزمات المسكوت عنها تعيشها أنظمة عربية أُخرى والسكوت عنها لا يعني أنها ليست من النوع المعلوم المجهول.فهنالك وسائل التواصل الإجتماعي والتغريدات التي تفضح المستور.
وعلى رغم حالات الإحباط المستشرية في مجتمعات عربية كثيرة وما يترافق مع الإحباط من أزمات معيشية وإنتكاسات على صعيد الأعمال، إلاَّ أن ذوي العناد على عنادهم لا يأخذ أي منهم القرار الذي به ربما تستقيم الأمور.
وحيث أن لبنان يشهد أعتى أنواع العناد، ومن دون وجه حق للمعاندين، فإننا على ما يبدو من ملامح في الأفق على موعد مع إستحقاقات ربما تكون الأكثر خطورة من تلك التي عاشها لبنان في سنوات مضت. وعندما لا يكتفي نتنياهو بإستفزازه المتمثل بعقد إجتماع للحكومة في هضبة الجولان السوري المحتل ويعلن على مسمع العرب والمسلمين والعالم وبالذات على مسمع القيصر الروسي فلاديمير بوتين «إن هضبة الجولان السورية ستبقى تحت السيادة الإسرائيلية بتسوية أو من دون تسوية»، أليس مثل هذا الإستفزاز مدعاة إلى أُولي العناد في سوريا لكي يعيدوا النظر في ما آلت إليه الأمور نتيجة سياسة قائمة على التحدي والعناد.
زيادة في القول نرى أن يقوم أُولو العناد والتصريحات الطنانة تليها الخُطَب الرنانة وعلى طريقة الخلفاء في زمن الرقي الإسلامي الغابر بجولة في منطقة أسواق بيروت التي أُعيد بناؤها على أحسن تخطيط وتجميل ليروا كيف أنها تعيش كما لو أن هنالك منْع تجوُّل على مدار الأربع والعشرين ساعة في حين يُفترض أن تكون مثل شوارع أوكسفورد وبيكاديللي وكنزنغتون في لندن وشوارع الشانزليزيه والأوبرا والحي الخامس في باريس، وهذا على سبيل المثال لا الحصر. وإلى جانب الأسواق التي تزداد إقفالاً لمتاجرها نرى أن يسأل أُولو التصريحات الطنانة والخُطَب الرنانة الناس بدءاً بمحيطهم وصولاً إلى سائر الحلقات عن أحوالهم التي باتت على مشارف المأساة، ويسألوا أصحاب الفنادق عن صحة الأخبار التي تفيد بأن المصارف وضعت اليد أو هددت بوضع اليد عليها أي أنها أفلست بسبب العناد والعنتريات التي جعلت محبي السياحة والتسوق في لبنان لم يحضروا شتاءاً ثم ربيعاً ولا هم سيأتون صيفاً.
ما يُقال عن الكوارث التي تصيب لبنان من أُولي العناد والتصريحات الطنانة والخِطَب الرنانة، يُقال عن كوارث تصيب آخرين وبالذات في تونس واليمن ومصر وسوريا والعراق والأردن وليبيا، مع تفاوت النِسَب وحجم الكوارث.
وعندما يستفزنا نتنياهو إلى جانب إجتماع حكومته في هضبة الجولان السوري المحتل ويهدد لبنان بعظائم الأمور وبأنه «في الحرب المقبلة سيَلحق بلبنان دمار كبير». فإن إستفزازه هذا يتواكب مع حالة الإحباط والكوارث الإقتصادية التي يعيشها لبنان بسبب أُولي العناد والتصريحات الطنانة والخُطَب الرنانة، وكيف أن جهات ذات شأن بدأت تتلقى المزيد من الإشارات إلى أن الصدور التي كانت تتحمل باتت غير قادرة على التحمُّل، وأن الإنفجار المؤجل قارب على الحدوث وأن أي قرار يقلِّل من حجم الخسائر يبقى أفضل بكثير من خسارة كاملة.
لقد مارس لبنان ماضياً دوره النضالي وبحيث لم يقصِّر في أي واجب تجاه حالة من حالات النضال سواء من أجل إكتمال الإستقلال العربي أو من أجل ردع العدوان على أشقاء بين المحيط والخليج. وأما في موضوع القضية الفلسطينية فإنه أدى الواجب على خير وجه إستضافة ومقاومة. وهو في كل ذلك كان يؤدي الواجب على حساب إستقراره. وكان يضحي ببعض ما يجنيه من ثروة طبيعية من أجل ذلك الواجب الوطني.
الآن من حق الأجيال اللبنانية إستعادة الإستفادة من الثروة الطبيعية. من السياحة، من الإصطياف، من الإستثمار في لبنان، من الطبابة في مستشفياته، من تطوير صناعاته الغذائية، من تنشيط الزراعة،من عشرات المؤتمرات والمعارض تقام في عاصمته بيروت وفي سائر المدن، من مياهه التي تذهب هدراً. وما نذكره هنا هو على سبيل المثال لا الحصر ذلك أن مصادر الثروة كثيرة.
وعندما نتأمل في ما يفعله آخرون وكيف يخططون لعقود آتية وعلى قاعدة القرش الأبيض لليوم الأسود بينما يحدث في لبنان العكس، فإن أجيالنا الآتية من ابناء وأحفاد لن يذكروا بالخير أولئك الذين ضيَّعوا بالعناد والخُطَب الطنانة والتصرحيات الرنانة والإرتماء في أحضان الغريب ثروة الوطن وأهميته.
بإستمرار العناد سائرون إلى الهاوية. وبالتخلي عنه يتم الإستقرار وتبدأ رحلة الصعود إلى القمة.
والله المعين لنا في لبنان ولغيرنا مِن الذين يدفع العناد بسياساتهم إلى المجهول.