عندما أطلق الأمين العام لـ«حزب الله» السيد حسن نصرالله مبادرته الأولى في وادي الحجير، إعتبرها بعض الخبثاء مناورة، والبعض الآخر زلّة لسان.
ولكن، عقب مجزرة برج البراجنة، كرّر السيد نصرالله عرض مبادرته، التي شملت الرئاسة الشاغرة، ووضع قانون جديد للإنتخاب، وتفعيل الحكومة الحالية، فبدّد الشكوك وأشاع جواً من التفاؤل والإرتياح. خصوصاً، عندما أكّد صاحب المبادرة في المرّتين أنها تحت سقف إتفاق الطائف، ما أبعدَ شبح المثالثة، وطوى صفحة المؤتمر التأسيسي الذي كان يقضّ مضاجع فئة واسعة من اللبنانيين.
قال الأمين العام: «أنا أدعو إلى تسوية شاملة على المستوى الوطني، تعالوا لنضع الأمور الأساسية فـي سلّة واحدة ونعمل تسوية. يا أخي ماذا تريدون، تعالوا لنتحدّث، رئاسة الجمهورية، الحكومة المستقبَلية، رئيس الحكومة، تركيبة الحكومة، المجلس النيابي، قانون الإنتخاب… عندما أقول تسوية، يعني «العالم بدّا تاخد وتعطي»، من أجل البلد، من أجل مصلحة البلد. لا ننتظر أيّ شيء في الخارج، الخارج كله مشغول عنا».
أيّاً كان السبب الذي حدا بالسيد نصرالله لهذه المبادرة، فعلى جميع الأفرقاء التعامل معها بإيجابية وبروح المسؤولية، لأنّ البديل عن هذه التسوية الداخلية، مزيد من الشلل والإهتراء والخراب. نعم وصحيح، كلّ القوى الخارجية مشغولة بمشكلاتها ولا بديل عن إيجاد تسوية، والتنازل بعضنا لبعض من أجل إنقاذ الوطن. ولكننا نسأل: كيف يمكن أن تتمّ التسوية ما دام كلّ فريق مرتبطاً بخارج ينفّذ أوامره ويؤلّه خياراته؟ هل قرّر زعماؤنا فكّ إرتباطهم بكلّ خارج؟
وهل سلّة واحدة تكفي لخروج لبنان من كلّ أزماته؟ نحن نواجه أزمات كبيرة وخطيرة منذ زمن بعيد، قبل الشغور الرئاسي، وقبل تعطيل الحكومة والمجلس النيابي. وهذه الأزمات رافقت وطننا منذ نشوئه ولم تفارقه إلّا نادراً.
بدأت بعد إغتصاب فلسطين ولجوء الفلسطينيين إلى أرضنا، ثمّ تفاقمت مع الإحتلال الإسرائيلي، ولم تنتهِ لا بعد رحيل الفدائيين الفلسطينيين إلى تونس، ولا بعد إنسحاب الجيش الإسرائيلي من الجنوب، ولا خلال الوصاية السورية، ولا بعد رحيل السوريين.
إنّ مشكلاتنا أعمق وأكبر من أن تحلّها سلّة واحدة وتسوية لمرة واحدة، ونحتاج إلى سنين عدّة من الحوار والسلال لأنّ أزماتنا ومشكلاتنا متشابكة ومعقّدة، وهي متأصّلة فينا، في تركيبتنا الطائفية، وفي تربيتنا العنصرية والمذهبية، ولا سبيل إلى الشفاء منها في الـمدى المنظور، كوننا نعيش مع سمومها وأدرانها فـي كلّ يوم من حياتنا. وقد أثبتت التجارب والأيام أنه كلما خرجنا مرة عن الدستور الذي إرتضيناه، تعقّدت مشكلاتنا وتعاظمت أزماتنا واتجهنا نحو الهاوية التي تنتظرنا عند كلّ مفترق.
إنّ الحلّ المرحلي الذي يسبق كلّ الحلول والتسويات ويتقدّم على كلّ ما عداه، هو إنتخاب رئيس للجمهورية، تطبيقاً للدستور ولمبدأ تداول السلطات. فلا يمكن لأيّ وطن مهما صغر أو كبر أن يستمرّ ويعيش بلا رأس، ولا يمكن أن ينتظم عمل بقية المؤسسات بلا رئيس للجمهورية.
أما بقية الـمشكلات، فتحتاج إلى الكثير من الوقت والجهد والعذاب، بدءاً بقانون الإنتخاب، مروراً بالمحكمة الدولية، وانتهاءً بسلاح «حزب الله» والتدخّل في سوريا.
حين كتب «أفلاطون» عن نظام الحكم في جمهوريته الفاضلة إشترط أن يكون رئيسها فيلسوفاً، لأنه يتحلّى بمواصفات القائد الحقيقي: «الحكمة، والصدق، والإدراك، والإنسانية، والرحمة، والعدالة، والعلم، والصبر والشجاعة». فهل تنطبق هذه المواصفات على جميع زعمائنا الموارنة؟ ويسأل كثيرون بتهكّم، هل لبنان جمهورية فاضلة لكي يحتاج إلى فيلسوف؟
في الأيام الأخيرة تعدّدت اللقاءات في بيروت والرياض وباريس، وكثُرت التكهّنات والترجيحات الرئاسية، وذهب الخيال ببعض العقول إلى تسمية النائب سليمان فرنجيه مرشحاً جدّياً للرئاسة، مذكّرة بما حصل في سبعينات القرن الماضي عندما تمّت التسوية على «سليمان الـجدّ».
فهل هبطت حقاً كلمة السرّ الأميركية – الإيرانية على «سليمان الحفيد»، وأعطت الرياض الضوء الأخضر للرئيس سعد الحريري؟ وهل حصل التنسيق المُسبق مع السيد نصرالله ليطرح مبادرته «التسوَوية» الشهيرة في إحتفالَين متتاليَين؟ لا شكّ في أنّ الرئيس الحريري لم يُقدم على هذه التسوية الخطيرة من تلقاء نفسه، بل إستند في ترشيحه فرنجيه إلى تأييد حلفائه الإقليميين والدوليين، بعدما تبلّغ موافقة إيران و»حزب الله».
الحريري يعرف جيداً أنّ الوضع اللبناني المهترئ سياسياً واقتصادياً ومالياً لا يسمح بمزيد من المناورات بقصد حرق إسم فرنجيه أو للإيقاع بين فرنجيه وحليفيه «حزب الله» وعون، كما أنّ الـحريري، الذي طال غيابه، لم يعد يحتمل الهجرة القسرية عن السلطة والبلاد إلى ما شاء الله.
لقد بدأ الحريري تسويق الإسم مع النائبين وليد جنبلاط وسامي الجميّل وفي جعبته 75 صوتاً مؤيّداً لفرنجيه، وسيستكمل جولته مع الدكتور سمير جعجع وبقية مكوّنات «14 آذار».
أما «حزب الله»، الذي لا يريد حرق المراحل، فلم يُقدِم بعد على تنفيذ ما أوكل إليه، وهو إقناع العماد ميشال عون بالتخلّي عن ترشيحه لمصلحة فرنجيه، مُفضّلاً ترك الكرة حالياً في ملعب عون ليقرّر بنفسه الإستمرار في ترشيحه أو دعم «حليفه».
هل بلغ الضعف بقوى «14 آذار» حدّ القبول بمثل هذه الهزيمة؟ وكيف سيتقبلها المناضلون من أبناء «ثورة الأرز»؟ سينتفض كثيرون على هذه التسوية، وسيحدث بعض الإنشقاقات داخل الصف الواحد، إذ يعتبرها فريق «14 آذار» بمثابة نكسة كبرى، وانكساراً مدوّياً لفريقهم، ويعتبرها الجنرال عون طعنة في ظهره من حلفائه قبل خصومه.
ولكن، على رغم كلّ هذه التناقضات، ستسلك التسوية طريقها المتعرّجة والمليئة بالأشواك والمطبّات والمفتوحة على شتى الإحتمالات، من دون أن يتمكّن أحد التنبؤ منذ الآن بسقوطها أو نجاحها، ولكنها فـي كل حال، قد تكون توطئة لتسوية أخرى، أكثر إنصافاً وعدالةً، ويكون بطلها «فيلسوف» من خارج «8 و14 آذار».