Site icon IMLebanon

كم يبلغ الدين العام؟

أقرّ مجلس النواب موازنة العام 2017 في جلسته امس الاول، الخميس بعد ثلاثة أيام من النقاشات. هذا الأمر الذي يُعدّ إنجازا في الظاهر نظراً لتداعياته الإيجابية على صعيد التصنيف الإئتماني للبنان، أرسى سابقة بإستنسابية تطبيق الدستور وأظهر مُشكلة عامّة تتمثّل بمعرفة قيمة الدين العام.

 

لا يُخفى على أحد أن تسارع زيادة الدين العام بين العامين 2005 و2017 سببه الرئيسي الإنفاق من خارج الموازنة. فقد إرتفع الدين العام من 38 مليار دولار في العام 2005 إلى 77 مليار دولار حتى شهر تموّز 2017 أي تضاعف خلال 12 عامًا.

والأصعب في الأمر أن هذا المبلغ الهائل تمّ إنفاقه بالدرجة الأولى على الإنفاق الجاري (الأجور وخدمة الدين العام والكهرباء) دون أن يكون هناك إنفاق إستثماري ملحوظ.

منذ العام 2005 وحتى يومنا هذا تتقدّم وزارة المال بمشاريع موازنات إلى مجلس النواب. هذه المشاريع تُعتبر نسخة عن السنة السابقة مع إرتفاع في حجم البنود من عام إلى أخر، وبالتالي فإن طرح موازنة العام 2017 جاء في سياق إستمرارية مشاريع الموازنات السابقة.

وهنا تظهر مُشكلة أساسية تتمثّل في معرفة دقّة الأرقام التي تظهر في مشاريع الموازنة (بالطبع لا يجب أخذ هذه الملاحظة إنتقادًا لأداء وزارة المال بل إلى القرار السياسي الذي يعود له الأمر).

فالمعروف أن أخر قطع حساب تمّ إقراره من مجلس النواب كان في العام 2005 عن سنة 2003. وبالتالي من المفروض أن يُشكّل قطع الحساب هذا مرجعا موثوقا لحسابات الدولة اللبنانية، إلا أن الواقع مُختلف.

بحسب الأسباب المُوجبة التي رافقت مشروع قطع حساب العام 2015 والذي رفعه وزير المال إلى مجلس الوزراء في جلسة مجلس الوزراء نهاية أيلول الماضي، هناك عيوب كثيرة تشوب الحسابات في الفترة التي طالت قطع حساب العام 2003 نذكر منها على سبيل المثال عدم وجود حسابات لـ 92% من الهبات التي تلقتّها الدولة اللبنانية. وبالتالي، فإن قطع حساب العام 2003 هو قطع حساب غير دقيق لأنه لا يعكس واقع المالية العامّة في لبنان.

المُشكلة الأساسية التي حالت دون تصديق ديوان المحاسبة على قطع الحساب خلال الأعوام الماضية هي في الأرصدة الإفتتاحية للعام 1993 والتي تمّ تصفيرها بشكل عشوائي بحسب تقرير وزارة المال. لكن في ظل فرضية معالجة هذه الأرصدة بشكل علمي، هناك مُشكلة غياب قيود للعديد من العمليات مما يعني أن مُعظم الحسابات المطروحة لا تعكس حقيقة المالية العامّة وعلى رأسها الدين العام.

كم يبلغ دين عام الدولة اللبنانية؟ سؤال يتوجّب على السلطة السياسية الإجابة عنه، فغياب واقع دقيق للمالية العامّة في الأرقام المطروحة في قطع حساب الأعوام التي تلت الحرب الأهلية يعني أن الجواب على هذا السؤال هو رهينة تصحيح الأرقام.

وهنا يحق للقارئ أن يسأل عما إذا كانت فترة ستّة أشهر أو سنة التي طالبت بها وزارة المال كافية لتحضير قطع حساب دقيق؟

بإعتقادنا أن هذا الأمر هو شبه مُستحيل وذلك لسببين: الأول يتمثّل بملايين القيود التي يتوجّب إعادة درسها وهذا الأمر يتطّلب الكثير من الوقت. والثاني يتمثّل بغياب إثباتات عن كل العمليات التي تمّت. من هذا المُنطلق نرى أن هناك شبه إستحالة لوضع قطع حساب دقيق للدولة اللبنانية في ظل المنهجية المُعتمدة وفي ظل الوقت المطلوب.

لماذا هناك أهمّية لقطع حساب دقيق؟

إن أهمّية قطع الحساب الدقيق لها تداعيات على الواقع المالي للدوّلة اللبنانية ولكن أيضًا على طريقة إدارة المال العام.

الواقع المالي للدولة: يحق للمواطن اللبناني الذي يقبل بدفع الضرائب أن يعرف كمّ يبلغ دينه العام. هذا الأمر هو من أبسط حقوق المواطن على السلطة السياسية ولا يُمكن لهذه الأخيرة أن تقول له إكتشفنا أن هناك ديونا لم تكن مُسجّلة وبالتالي يتوجّب دفع ضرائب لتسديدها.

وهنا نتذكّر ما حصل في حزيران العام 2015 حين ظهر من العدم إستحقاق مالي على الدولة اللبنانية بقيمة 800 مليون دولار أميركي إضطّر مصرف لبنان إلى دفعه عن الدوّلة اللبنانية.

إدارة المال العام: لا يُمكن إنتظام المالية العامّة من دون معرفة حقيقة الإنفاق في مختلف وزارات ومؤسسات الدوّلة اللبنانية. هذا الأمر هو أحدّ أسس الإدارة المالية الرشيدة في الشركات والدول لترشيد الإنفاق وتعظيم فوائد إستهلاك الموارد المالية والإقتصادية، وبالتالي يتوجّب على الدوّلة معرفة حقيقة المالية العامّة.

ولمن يقول أن هذا الأمر معروف من خلال بنود الموازنة، نقول له أن غياب قطع حساب دقيق يمنع معرفة هذا الأمر خصوصًا أن تقرير وزارة المال أقرّ بوجود أخطاء (بغضّ النظر إذا كان عمدًا أو عن قلّة معرفة) وبالتالي لا يُمكن توزيع الإنفاق بشكل دقيق على كافة البنود في الموازنة.

منهجية لقطع الحساب

المراحل التي يُمكن من خلالها تحقيق قطع حساب دقيق تتضمّن آلية علمية مبنية على التالي:

أولًا: مراجعة كل الحسابات من جديد وذلك من خلال العوّدة في الوقت إلى العام 1991. هذا الأمر يفرض تدقيقا حسابيا مُضنيا ولو لزم الأمر تفريغ 2000 موظف من موظفي الإدارة العامّة يجب القيام به بشكل منهجي ودقيق.

ثانيًا: فصل العمليات المشكوك بأمرها (لا تملك أوراق ثبوتية…) عن العمليات السليمة ودراسة إمكانية إجراء تصحيح لهذه القيود من خلال مُقاربة علمية (كل حالة بحالة).

ثالثًا: إن العمليات التي لا يُمكن تصحيحها يجب وضعها في خانة خاصة حيث تتمّ دراسة تداعياتها المالية على حسابات الدولة (مدينة أو دائنة).

رابعًا: إستعادة مستحقات الدوّلة على الغير من خلال تحصيل هذه المستحقات بآلية تضعها الحكومة.

خامسًا: عزل العمليات التي تُظهر إستحقاقات على الدوّلة اللبنانية وإنشاء لجنة تحقيق لمعرفة تداعيات هذه الإستحقاقات مع الوقت وإظهار الجهات المعنية فيها لكي يتّم تحديد إذا ما كان هناك من تداعيات مع الوقت مُستمرّة حتى الساعة.

سادسًا: في حال لم يتمّ الوصول إلى نتيجة مع هذه العمليات، يتوجّب تكوين مؤونة لها.

سابعًا: إعتماد منهجية علمية في تحديد حسابات الأرصد الإفتتاحية للعام 1993 وعكس هذه الأرصدة في قطع الحسابات للأعوام التالية حتى العام 2016.

كل هذا يتمّ بإشراف مباشر من قبل ديوان المحاسبة الذي أظهر مصداقيته كل هذه السنوات بعدم المُصادقة على قطع حساب مُخالف للقوانين المرعية الإجراء.

وبالتالي يُمكن من خلال هذه المنهجية تحديد حقوق الدولة لدى الغير ومُستحقات الغير على الدوّلة اللبنانية مما يعني الوصول إلى قطع حساب دقيق ومعه قيمة الدين العام.

موازنة العام 2018

بإعتقادنا يتوجّب على السلطة إقرار موازنة للعام 2018 على أساس قطع حساب العام 2016 حتى ولو كان هذا الأخير غير دقيق مع إدخال عبارة «على ان تؤخذ في الاعتبار التعديلات التي قد يقرها ديوان المحاسبة لاحقاً». هذا الأمر يسمح بإحترام الدستور وفي نفس الوقت يُبقي الباب مفتوحًا أمام التعديلات التي سيجريها ديوان المُحاسبة على كل قطع حساب منذ العام 1993 وحتى يومنا هذا.

في الختام، يُمكن الجزم من خلال تقرير وزارة المال أن الدوّلة اللبنانية لم تمتلك يومًا قطع حساب دقيق وهذا الأمر غير مقبول إذ لا ينقص لبنان مهارات لتصحيح وضع مهترئ يعود إلى سبعينات القرن الماضي.