IMLebanon

كيف يجبر الحرس القديم الإصلاحي على الخضوع أو الخروج؟

«كوني أيا أذني صماء مغلقة إن السياسة متن المركب الخشن يُقضى على المرء في أيام محنته بأن يرى حسناً ما ليس بالحسن« (ابراهيم المنذر)

«بوتسوانا» بلد أفريقي تشغل صحراء «كالاهاري» سبعين بالمئة من أرضه، والجزء الآخر منه شبه صحراوي من دون أي منفذ على البحر. نالت بوتسوانا استقلالها سنة وانتُخب «سيريتيسي كاما» رئيساً لها، ومع أنه أتى على خلفية ثورية، فقد أدار منذ اليوم الأول حكماً ديموقراطياً دستورياً بسلطة قضائية مستقلة وأصبحت مضرب مثل في الحكم الرشيد والنمو الذي وصل إلى % سنوياً، فانتقلت من كونها أفقر بلد في أفريقيا لتصبح من الدول ذات الدخل المتوسط على المستوى العالمي.

أكدت هذه التجربة الفريدة أن كل الفرضيات حول أسباب فشل الأمم في تحقيق النمو، واعتبار أن الفقر قدر سببه العرق أو الجغرافيا أو التاريخ أو الثقافة، غير قابلة للصرف لأن قصص النجاح يمكن أن تكون نتاج تغييرات صغيرة أهمها أن يتحول منطق الاقتصاد من حصرية فوائده في قلة من الناس إلى مشاركة معظم المواطنين فيه. 

من هنا العودة إلى تعبير نردده كالببغاء في لبنان اسمه «الشراكة الوطنية»، وعندما تسأل عما تعني هذه الجملة العجيبة تفهم أن لبنان قائم على الشراكة بين الطوائف، أي بين المسيحيين والمسلمين. ولكن عندما تبحث في حقائق الأمور ترى بوضوح أن الشراكة قائمة حصراً بين قلة تمثل الإقطاع السياسي والطائفي موزعة على الطوائف، ويمكن القول إنها شراكة ناجحة على مستوى المستفيدين منها، بدليل أنها استمرت لعقود رغم الكوارث التي تسببت بها على البلد من خلال تهميش فئات واسعة من المواطنين وإقصائهم عن فوائدها. 

والمثل الشعبي «جود من الموجود» و»أصلك عوجا يا عوجا» و»دنب الكلب أعوج…».

لم يبخل الزمان علينا بتجارب وشخصيات حاولت أن تحدث التغيير اللازم لفك الشراكة بين الأقلية وتحولها إلى شراكة موسعة بين المواطنين.

فؤاد شهاب كان ربما أهم وأول من حاول تفكيك الشراكة من خلال إرساء مرجعية المؤسسات بدل الزعامات. مد شبكات المواصلات ودعم التعليم الرسمي لإعطاء فرصة لأوسع شريحة من المواطنين للمشاركة في الإنتاج. نجح الرئيس في الجزء الأول من حكمه على الرغم من مقاومة الحرس القديم، لكنه عاد وتحالف مع بعضهم وتخاصم مع البعض الآخر بعد أن أصبح المكتب الثاني الحاكم الفعلي للبلاد. بالنهاية عادت وانتصرت الشراكة القديمة سنة بانتحاب سليمان فرنجية. 

تجربة حكومة الشباب المزعومة في عهد فرنجية أحبطت بسرعة بعد أن أجبر الوزراء الإصلاحيون على الاستقالة، وعاد وعين الرئيس ابنه وزيراً في وزارة مدرارة. 

اندلعت الحرب، ولا أظن أنني أفشي سراً إن قلت إن دولة شراكة الإقطاع السياسي الطائفي كانت أهم مسببي الحرب الأهلية، فبعض الإقطاع قادها دفاعاً عن مصالحه، ومعظم المشاركين في الحرب من ضحايا وشهداء ومقاتلين كانوا من المواطنين المحرومين من المشاركة في الاقتصاد. وحتى الحرب الطائفية فقد كانت على خلفية اعتبار السنة والشيعة محرومين من المشاركة في فوائد الاقتصاد، ولا أظن أن أحداً خاضها دفاعاً عن دينه أو مذهبه!

التجربة الأخيرة كانت مع دخول رفيق الحريري إلى عالم السلطة، لقد حاول منذ اليوم الأول توسيع قاعدة الاقتصاد وتسهيل المشاركة فيه لدفع أكبر شريحة من الناس للاستفادة منه، وكان ذلك من خلال توسيع وتحسين شبكات المواصلات والبنية التحتية لتشجيع الاستثمارات. حاول في البداية إحداث صدمة في البنية الفوقية الإدارية من خلال صرف مجموعة من الموظفين الفاسدين، فانطلقت كل الطبقة السياسية القديمة لإجهاض تلك التجربة وعاد الفاسدون إلى وظائفهم ولم يرتدعوا عن فسادهم لا بل أصبح الفساد معمماً ومحمياً شعبياً وطائفياً. 

التجربة الأخرى كانت في وقف العمل في الوكالات الحصرية، فانطلق الحرس القديم من جديد في حملة شعواء تحت شعارات طائفية مما خفف اندفاعة الرئيس الشهيد. 

وعندما بدأ الحديث عن الكفاءات والشفافية، لم يسلم رفيق الحريري من اتهامات السنّة له بأنه لم يميزهم في التعاطي الوظيفي ولم «ينصفهم« على حساب الطوائف الأخرى. على كل الأحوال فقد كان المطلوب من رفيق الحريري أن يدخل في مجموعة الحرس القديم، أي نظام الإقطاع السياسي الطائفي لكي يستمر في الإدارة من دون عراقيل تحت مسميات مختلفة. 

من هنا فلن يكون هناك أمل لنمو حقيقي من دون كسر هذه الحلقة المفرغة وبالتالي إخراج اللعبة السياسية من يد الحرس القديم، اقطاعيي السياسة والمذاهب. 

()عضو المكتب السياسي في «تيار المستقبل»