تقول إيران وأتباعها إنهم «مستاؤون» من التجييش المذهبي المتصاعد في العالم العربي خصوصاً، والشرق المسلم عموماً، لكنهم يرفضون الإقرار بأنهم لعبوا الدور الأساس في إعادة إحياء هذا النوع من الاستقطاب في المنطقة، منذ قرّر «آيات الله»، بعيد وصولهم الى السلطة، «تصدير الثورة»، ليتبين لاحقاً أن ذلك عنى فقط استغلال الأقليات الشيعية في العالم العربي لنشر نفوذهم الإقليمي.
وتتكرّر على ألسنة المسؤولين الإيرانيين المفاخرة بأن طهران استطاعت طوال خمسة وثلاثين عاماً، ان تدخل اكثر من بلد عربي، وكان آخر هؤلاء مستشار خامنئي للشؤون الدولية علي ولايتي الذي قال أول من امس (على رغم النفي الاستلحاقي) ان قدرات بلاده «لا تخفى على أحد، والجميع مُضطر الى الاعتراف بها. لإيران الآن نفوذ أساسي في المنطقة، يمتد من اليمن إلى لبنان، وهذا أمر لم يتصوّره أحد أبداً».
وكان اليمن الحلقة الأخيرة في «سلسلة الخراب» الإيرانية، بعد العراق ولبنان وسورية، عندما نجح «الحوثيون» الذين تربطهم بطهران علاقات تمويل وتسليح تستند الى تماه مذهبي، في اختراق التركيبة الهشة للغالبية الشعبية والسياسية المختلفة عنهم مذهبياً وتوجهاً قومياً، قبل ان يخترقوها عسكرياً.
فالمعتصمون والمتظاهرون الذين خرجوا الى شوارع صنعاء في 2011 مطالبين بالتغيير، كانوا يطمحون الى صنع نظام افضل يقوم على تداول سلمي للسلطة، بدلاً من اقتصارها طويلاً على شخص بعينه يمسك بالرقاب والجيوب. ومع ان جماعة «الإخوان المسلمين» حاولت سرقة التحرك وتجييره لمصلحتها وإظهار أنها هي التي تقف وراء اطاحة علي عبدالله صالح، الا ان اختيار الرئيس عبد ربه منصور هادي حرمها هذه الفرصة، وأدخل البلاد فعلياً في مرحلة انتقالية بإشراف دولي وإقليمي كان يفترض ان تؤدي الى انتخابات تشريعية ثم رئاسية.
لكن الذي حصل أن إيران حرّكت جماعة «الحوثيين» ودفعتها الى مواجهات مسلحة مع «الإخوان». وساهم تواطؤ الرئيس السابق في تحييد قوات الجيش وانكسار الجماعة في الشمال، لكن اندفاعة «الحوثي» لم تتوقف وأكملت طريقها الى العاصمة ثم الى مناطق الشرق والجنوب.
وكشف تقدم «الحوثيين» انه باستثناء الانتشار العادي للسلاح الفردي في ايدي اليمنيين، فإن الغالبية السنّية لا تملك ميليشيات منظمة ومسلحة بعد هزيمة «الإخوان» السريعة، ولم يبق هناك سوى تنظيم «القاعدة» ينصّب نفسه مدافعاً عن السنّة ويقاتل باسمهم. اي ان التحرك الإيراني المسلح حرم المعتدلين، من سنّة وغيرهم، المشاركة في صوغ القرار اليمني وقرّب البلاد من حرب اهلية طائفية تلوح في الأفق، ونقل الإمرة الى المتطرفين، تماماً مثلما حصل في العراق عندما تحولت المناطق السنّية الى بيئة حاضنة لتنظيم «داعش» بعدما امعنت الأحزاب الشيعية الحاكمة والميليشيات المؤيدة لها في استبعاد السنّة ومحاولة اخضاعهم.
وبعد «الإخوان» التفت «الحوثيون» صوب الرئيس هادي، العقبة السياسية الأخيرة في طريقهم، فشنوا حملة عنيفة عليه، واتهموه بأنه من «رعاة الفساد»، قبل ان يُفشل حليفهم علي صالح منح الثقة للحكومة في البرلمان، ما قد يدخل البلاد في فوضى تامة تتيح لهم الإطباق على ما تبقى من مناطق ومؤسسات.
اعتمد «الحوثيون» تكتيكاً يقوم على الخداع، فعقدوا الصلح مع القبائل السنّية، قبل الانقضاض عليها بعد حشد قواهم، ومارسوا الأسلوب نفسه في السياسة عندما ابرموا اتفاقات متتالية مع القوى المعتدلة سرعان ما انقلبوا عليها. وإذا كان هذا التكتيك مكّنهم من تحقيق انتصارات هنا وهناك، إلا أنه ساهم في الوقت نفسه في إيصال اليمن الذي لا يُحكم بالسلاح، إلى حافة التشرذم المذهبي والدويلات.