في خطابه الأخير مساء الأحد، وضع سعد رفيق الحريري النقاط على الحروف. قال بكل بساطة إلى الذين يسعون إلى جرّ تيّار «المستقبل» إلى المتاريس المذهبية والطائفية أنهمّ أخطأوا في العنوان. كان الرئيس الحريري واضحا كلّ الوضوح عندما ذكّر الذين يستثمرون في الطائفية والمذهبية بأنّ «تيار المستقبل، تيّار رفيق الحريري، تيّار العقل والهدوء والمنطق». كان مهمّا التذكير مرات عدة في سياق الخطاب بمدرسة رفيق الحريري «الذي يستحيل على تياره المشاركة في ألعاب الدمّ بين الأخوة». فمهما بذل «حزب الله» من جهود للظهور في مظهر الحكم والمتفرّج تجاه معارك ونزاعات وصراعات وهمية بين اللبنانيين، بين المسيحيين والسنّة تحديدا، تظلّ اللعبة التي يمارسها مكشوفة. قد تنطلي هذه اللعبة على بعض السذّج، إلّا أنّه لا يمكن أن تنطلي على المراهنين على الدولة اللبنانية ومؤسساتها ولا شيء آخر غير ذلك…أي على الأكثرية اللبنانية التي كان سعد الحريري صوتها.
بعد الخطاب، الذي يتوجّب على اللبنانيين قراءة نصّه بتمعّن، يظهر بوضوح أن لا مجال لأخذ تيار «المستقبل« إلى التطرّف فـ»نحن لا ننجرّ إلى المزايدات والتصعيد والتطرّف لأنها وصفة لضرب السلم الأهلي وخطوة أولى وأخيرة ونهائية باتجاه الحرب الأهلية. إذا كان هناك من جريمة أكبر ضرب الدين باسم الدين، فهي جريمة ضرب الوطن باسم الوطن».
لا اسرار في لبنان. على مَن يطالب بحقوق المسيحيين النزول إلى مجلس النواب لإنتخاب رئيس للجمهورية. لا أحد ينافس المسيحيين على هذا الموقع الذي يظلّ الموقع الأوّل في الدولة ورمز الجمهورية وديمومة المؤسسات. أكثر من ذلك، لا يمكن الرهان على متغيرات في سوريا أو على المفاوضات في شأن الملفّ النووي الإيراني من أجل فرض رئيس من نوع معيّن على لبنان.
في خطابه الراقي، حرص الرئيس الحريري على التذكير بأهمية إتفاق الطائف والظلم الذي لحق به مع التأكيد أنّ «الظلم الأكبر على إتفاق الطائف يقع عندما نتحدّث عن حصرية السلاح»، أي «عن حصرية السلاح بيد الشرعية وحلّ جميع الميليشيات اللبنانية وغير اللبنانية وبسط سيادة الدولة على كامل الأراضي اللبنانية». في هذا المقطع من الخطاب تفسير واضح لإتفاق الطائف الذي يؤكّد أن لا مكان لميليشيات في لبنان من جهة وأنّ السلاح الشرعي الوحيد هو سلاح الجيش اللبناني والقوى الأمنية التابعة لمؤسسات الدولة.
كان مهمّا أن يضع زعيم تيّار «المستقبل» قضية التعذيب في سجن رومية في حجمها الحقيقي مؤكدا ثقته بوزير الداخلية نهاد المشنوق وقوى الأمن الداخلي وشعبة المعلومات. كان طبيعيا إنسحاب الثقة على مؤسسة الجيش التي تظلّ في كلّ وقت موضع ثقة تيّار «المستقبل« والتي لم يتردد الرئيس الشهيد رفيق الحريري في دعمها في أحلك الظروف، منذ مطلع ثمانينات القرن الماضي.
ولكن يبقى أن الجانب الأهمّ من الخطاب كان الجانب الإقليمي. شدّد سعد الحريري على أن «عاصفة الحزم شوكة في حلق المشروع الإيراني». هذه العملية العسكرية المستمرّة بقيادة المملكة العربية السعودية تكشف وجود وعي عربي لخطورة المشروع التوسّعي الإيراني الذي يسعى، بين ما يسعى، إلى خطف اليمن. أكثر من ذلك، هناك وعي عربي لأهمّية التصدي بحزم للمشروع الإيراني وعدم تركه ينفرد بالدول العربية الواحدة تلو الأخرى.
لعلّ الأكثر جرأة في الخطاب، تشديد الحريري على مدى خطورة الميليشيات المذهبية التابعة لإيران والتي تبنى على نموذج «الحرس الثوري». أشار تحديدا إلى «حزب الله» في لبنان و»انصار الله» في اليمن و»الحشد الشعبي» في العراق، فضلا عن الميليشيا التابعة للنظام السوري التي بدأت تحلّ مكان الجيش وتُطلق عليها تسمية «قوات الدفاع الشعبي». حذّر من أن هذا التوجه يصبّ في عملية تفتيت المنطقة ولا يخدم في أي شكل المواجهة مع الإرهاب. في نهاية المطاف، هل ايران التي تدعم هذه الميليشيات المذهبية مع الإرهاب أو ضدّه؟
هناك علامة استفهام كبرى يثيرها تشجيع ايران على قيام مثل هذا النوع من الميليشيات المذهبية التي هي في نهاية المطاف الوجه الآخر لـ»داعش» وأخواته وإخوانه.
أسئلة كثيرة طرحها سعد الحريري الذي أكّد مجددا «أن الطريق إلى القدس لا تمرّ بالزبداني ودمشق. الطريق إلى طهران تمرّ بسوريا والعراق. أمّا الطريق إلى فلسطين فبالتأكيد لا». كان في استطاعته أيضا التركيز على أن الهلال الفارسي لن ينقذ نظام بشّار الأسد، مهما بلغ حجم تدخّل «حزب الله» في سوريا.
جمع سعد الحريري بين الجرأة والإعتدال. إنّها معادلة صعبة نجح فيها نجاحا كبيرا. كان لا بد من تسمية الأشياء باسمائها. كان لا بد من تمرير رسالتين، إضافة إلى رسالة الثقة التامة بالرئيس تمام صائب سلام الذي يقف سدّا منيعا في وجه انهيار مؤسسات الدولة، أو ما بقي منها.
كانت الرسالة الأولى أنّ مناورات «حزب الله» لا تنطلي على أحد، بغض النظر عن وقاحة الأدوات التي يستخدمها.
أمّا الرسالة الأخرى فملخّصها أنّ هناك خريطة طريق لحماية لبنان، تبدأ بانتخاب رئيس للجمهورية حماية لمؤسسات الدولة اللبنانية. من هنا، البداية في حال كان هناك من يريد بالفعل حماية البلد بدل إعتماد الصوت العالي ولغة المزايدات والشعارات التي تقوم على المتاجرة بفلسطين إرضاء لمطامع إيران.