نشَأت الكيانات في الهلال الخصيب، قبل 100 عام، بشطبةِ قلم واحدة، من العراق إلى لبنان. ولذلك، هذه الكيانات هي في وضعية حجارة «الدومينو»: ما إن يسقط أحدُها حتى تتهاوى جميعاً. فمن يتَحدّى قوانين الفيزياء؟
بدأت التحضيرات للتغيير في الشرق الأوسط في 11 أيلول 2001. مَن خَلَقَ ذلك الوحش الذي يسمّونه «القاعدة»؟ لا أحد يعرف حتى الآن. لكن الواضح أنّه كان المبرِّر لضرب العراق. ثمّ جاء إسقاط الرئيس صدّام حسين في 2003 ليحضِّر الأرض للانهيارات. وقد تكشف المحكمة الدولية إذا كان اغتيال الرئيس رفيق الحريري في 2005 يندرج في السياق إيّاه أم لا.
وبين صدّام والحريري، أي بين العراق ولبنان، كان مطلوباً تدمير الجسر الذي يربط البلدين، أي سوريا. وربّما الأردن لاحقاً. وهنا يستعيد البعض ما نُقِل عن الرئيس كميل شمعون خلال الحرب اللبنانية: لبنان لا يتقسَّم إلّا إذا تقسَّم العراق. فإذا شاهدتم العراق يتقسَّم، ستكون قد بدأت مرحلة الدويلات الطائفية والعرقية في المنطقة، ولبنان جزء منها.
و«الربيع العربي» هو الآليّة التنفيذية لتغيير المنطقة. فالحداثة والحرّية والديموقراطية أهداف تتشوَّق إلى تحقيقها الشعوب التي تقهرها الأنظمة. ولكنْ تمَّت الاستعانة بالشعارات لإطلاق الفوضى. وبها ستُرسَم المنطقة على أسُس تراعي المصالح الإقليمية والدولية الجديدة.
ويترسّخ الاقتناع بوجود مخطّط لتقسيم دوَل العالم العربي، ولا سيّما دوَل الهلال الخصيب، حيث لإسرائيل طموحاتها. فقد اهتزَّت وحدة العراق، وبتأثيره اهتزّت سوريا. وعندما اهتزّت وحدة سوريا… بدأ القلق على لبنان. إنّه «الدومينو». وليس صعباً توقُّع مفاجآت أردنية في مرحلة لاحقة، أو مفاجآت خليجية انطلاقاً من اليمن.
لكنّ المطمئنين يقولون: لبنان استهلك وقودَه خلال حربه الأهلية، وبَلغ التقسيم الواقعي، لكنّه لم يتقسَّم على الورق. واليوم، يَغلي الشرق الأوسط وتتفجَّر كياناته، فيما الغطاء الإقليمي والدولي يَصون لبنان تحت سلطة مركزية ثابتة، ولو كانت ضعيفة أو حتى شكلية.
في المقابل، هناك القلِقون. وهؤلاء يطرحون أسئلةً ذات طابَع استراتيجي: كيف يمكن أن يبقى «لبنان السابق» إذا زالت «سوريا السابقة»؟ إنّ ذلك مستحيل علمياً، لأنّ التركيبة الاجتماعية والدينية والمذهبية والسياسية والاقتصادية وحتى العشائرية متشابهة، بل متشابكة، بين البلدين اللذين لا تقوم بينهما حدود منيعة.
فالحدود طارت اليوم واقعياً بانهيار الجبهات في البقاع والشمال، بعدما أسقطَتها الوصاية السورية على لبنان على مدى عقود. والنهر البشري المتدفِّق، من نازحين ومتقاتلين، أحضَرَ سوريا بكامل عناصرها الصراعية إلى لبنان فعلاً، ومن دون مبالغة (السوريّون والفلسطينيون في لبنان أكثر من 50% من الشعب اللبناني).
وعندما تنجَح المعارك الجارية اليوم في رسم مناطق النفوذ في سوريا، ستُحاول هذه المناطق أن تتلاحم مع ما أمكن من مناطق النفوذ الحليفة في لبنان. وهنا مغزى معركة القلمون في رسم الخريطة السورية الجديدة… وربّما اللبنانية أيضاً:
يخوض «حزب الله» معاركَ ضارية، يداً في يدٍ مع الجيش النظامي السوري، داخل الأراضي السورية المحاذية لمناطق نفوذه في البقاع. وهو إذ يوسِّع سيطرتَه في عمق القلمون السوري، فإنّما يَجعل البقعة اللبنانية – السورية الحدودية تحت نفوذ واحد: «الحزب» والنظام.
ولأنّ القلمون هي الحلقة التي تتيح للنظام ربطَ معقلِه الساحلي بدمشق، فهو لا يتخلّى عنها بأيّ ثمن. لكنّه قد يخسر مناطق كثيرة شرقاً وشمالاً وجنوباً. ولذلك، يكتفي بتثبيت السيطرة على بقعة تكون نواتها الأساسية بين دمشق وريفها وحمص وريفها وطرطوس واللاذقية. وإذ تتداخل المناطق السورية السنّية مع سنّة العراق شرقاً، تتداخل مناطق النفوذ العلوية مع شيعة لبنان غرباً. وهكذا يبدأ التقسيم في سوريا.
سيحافظ «حزب الله» على نفوذه في المناطق اللبنانية المحاذية لمناطق النفوذ العلوية في سوريا. وبعض المغالين يقولون إنّ هذه المناطق ستتحوَّل كياناً واحداً شيعياً – علوياً على المستوى الواقعي.
وإذا حصل ذلك، فكلّ المجموعات اللبنانية الأخرى ستجد نفسَها أمام معطيات جيوسياسية جديدة. وهنا يصبح ممكناً توقُّع تغييرات في لبنان. وفي 2013، قال عمرو موسى: «إذا وقع تقسيم في سوريا، فسيقع التقسيم في لبنان… وفي اللحظة إيّاها».
إذاً، سيتغيَّر لبنان إذا تغيَّرت سوريا، كما تتغيَّر سوريا حاليّاً بتأثير من التغيير العراقي. وسيكون الفضل في هذا التغيير، في العراق وسوريا ولبنان وسواها، للناشطين الأشاوس مذهبياً، السُنَّة والشيعة، وخارقي الحدود والمتمترسين في الجبهات المتداخلة.
إنّها سخرية القدر: إذا وقعَ التقسيم (أو أيّ تفكّك للنظام المركزي)، فسيكون المتسبِّبون به، بالدم والنار، والمهرولون إليه على أقدامهم ليل نهار، هم رافِعو الشعارات الرافضة له تقليديّاً. وأمّا الآخرون، المتَّهَمون تقليدياً بالمَيل إلى التقسيم… فلا حولَ ولا قوّة لهم إلّا بالله العليّ العظيم!