«وإن البر خير في حياة وأبقى بعد صاحبه ثوابا وإن الشر يصدع فاعليه فلم أر شراً بالخير آبا« (أحمد شوقي)
ليعذرني بعض الأصدقاء اليوم الذين يعتقدون أن معيار الوطنية هو التعصب للوطن بشكل يلامس حد العنصرية، يعني أن مقياس الوطنية السخيفة هو معاداة «الغريب» والتشكيك به. من هنا فقد خسرنا في آذار الكثير من الأصدقاء والحلفاء في سوريا من خلال ترداد بعضنا، عن قصد أو غيره، كلمة «السوري» أو حتى «سوريا» في إشارة الى العدو. علينا أن نفهم أن معيار محبة الوطن ليس هو استعداء الغريب، بل على العكس فإن معيار الوطنية هو قدرة الوطن على بناء مصالح مشتركة مع الأوطان الأخرى وجعل الغريب قريباً.
لقد أدرك رفيق الحريري هذه الحقائق من اليوم الأول لدخوله الحقل العام، وهو الذي نشأ قومياً عربياً. لقد أدرك أن بناء الأمم لا يمكن أن يكون على أساس العداء الفارغ مع الآخرين وبالأخص مع الجار العربي الأقرب وهو سوريا.
من قال إن رفيق الحريري كان يمثل مصالح سوريا لم يكن مخطئاً، مع أن من سَوّق هذه المقولات كان غالباً يقصد الإساءة إليه على أساس أنه كان يقوم بذلك على حساب مصالح لبنان!
لقد أدرك رفيق الحريري أن مسار الاقتصاد الموجه في الأنظمة الشمولية هو دائماً نحو التدهور الكارثي، ومصيبة هذا النوع من الأنظمة هي أنها في مسارها الكارثي إلى الهاوية تجر معها الآخرين. من خلال تصدير أزماتها إلى جيرانها الأقربين.
لبنان الجار الأقرب لسوريا، ولسوء الحظ الأضعف، لذلك فقد وجد فيه حافظ الأسد الضحية المثالية لتغطية فشل نظامه في كل شيء، في الأمن والاقتصاد والإنماء، وفشله في معارك التحرير الوهمية التي شكلت المادة الدائمة لخطاباته.
لقد اقتنع رفيق الحريري بقدرته على تحويل العلاقة بين سوريا ولبنان إلى شراكة رابحة، وكان يعتقد أن الوسيلة الوحيدة لبلوغ تلك الشراكة هي في إقناع القيادة السورية بفوائد الانفتاح الاقتصادي والسياسي، أملاً بأن ينعكس ذلك على تغيير طبيعة العلاقة بين لبنان وسوريا ليصبح التكامل الاقتصادي والسياسي بديلاً من منطق التبعية.
بُعيد مؤتمر مدريد سنة ، بدا أن الشرق الأوسط سائر بخطوات واسعة نحو السلام على أساس «الأرض مقابل السلام». لا أظنها مصادفة أن مجيء رفيق الحريري إلى الحكم أتى بعد المؤتمر، ولا أظن أن هذا الحدث كان معزولاً عن عملية السلام وعن تحضير المحيط العربي لإسرائيل لمرحلة جديدة من الصراع قوامها النمو والاقتصاد.لقد كانت المغامرة الحريرية ترتكز على محاولة استدراج نظام حافظ الأسد باتجاه تحرير تدريجي لاقتصاد بلاده لقناعة بأن ذلك سيغير حتماً قواعد اللعبة السياسية القائمة على مدى عقود من الزمن.
لكن الأسد كان يعلم أن نظامه لن يتمكن من الصمود أمام فتح الاقتصاد لأن القبضة الحديد كانت ستسقط حتماً عن سوريا ولبنان معاً، ولكنه ساير الواقع في البداية عندما سمح بافتتاح مصارف خاصة في سوريا. بالطبع يعلم الجميع أن تلك الخطوة لم تستتبع بتطوير ذي فائدة في بنية القوانين للتناسب مع تحرير الاقتصاد وما كان من بعض التحرير في الاقتصاد ليس إلا مجالاً واسعاً للفساد الإداري والمالي وحصر الفوائد بحاشية النظام.
بعد ذلك أصبح رفيق الحريري الساعي إلى تأمين مصلحة سوريا، العدو الأهم لنظام سوريا الأسد، وقد تمت ترجمة ذلك بإقصائه عن الحكم سنة بعد تنصيب كارثة على سدة رئاسة الجمهورية في لبنان.
استمر بعدها التدهور في عهد بشار، وبدل تطوير الاقتصاد في سوريا، أخذت المنظومة الغبية السورية اللبنانية بالعمل على تدمير ما بني في لبنان من خلال تخريب كل محاولات الإصلاح الاقتصادي عبر مشاريع الخصخصة التي أتت مع مؤتمر باريس الثاني.
البقية بعدها معروفة، لقد قتل رفيق الحريري ولا أبالغ بالقول بأن بشار قتل بذلك رفيق سوريا ومعه آخر محاولات إنقاذها من المصير الأسود الذي تعيشه اليوم. إن ما حصل في سوريا في السنوات الأربع الماضية ما هو إلا نتيجة منطقية لاغتيال نظام الأسد فرصة تطوير النظام التي حاول رفيق الحريري استدراجه إليها.
() عضو المكتب السياسي في تيار «المستقبل»