السؤال المزمن الذي كان يطرح ولا جواب عنه هو: “أي لبنان نريد؟” وقد انقلب حالياً الى سؤال آخر أهم هو: “لبنان الى أين” إذا استمر الشغور الرئاسي الى أجل غير معروف في ظلّ حكومة تعيش كل يوم بيومه، ومجلس نواب يتفق على “تشريع الضرورة” ويختلف على تفسيره فيصيبه الشلل… واذا كان اللبنانيون لم يتفقوا على أي لبنان يريدون، فهل يتفقون على أين يذهبون به إذا ظلّ من دون رئيس وكبيت بلا سقف؟
ثمّة من يطالب بالاتفاق أولاً على “الجمهورية” المطلوبة ومن ثم انتخاب رئيس ملائم لها، وليس الاتفاق على انتخاب رئيس ثم الدخول في خلاف على “الجمهورية” باعتبار انه في العام 1943 صار اتفاق على التخلص من الانتداب الفرنسي للحصول على الاستقلال فانتخب الشيخ بشارة الخوري رئيساً لجمهورية الاستقلال، وانتخب بعده كميل شمعون رئيساً ليحافظ على هذا الاستقلال ويصونه بالأمن والاستقرار والازدهار. وانتخب بعده اللواء فؤاد شهاب رئيساً ليستعيد الأمن والاستقرار اللذين فقدهما لبنان في أحداث 58، ثم انتخب شارل حلو رئيساً لتنفيذ “اتفاق القاهرة”، وقد أدى عدم تنفيذه تنفيذاً دقيقاً كاملاً الى اشعال حرب داخلية دامت 15 سنة، وتوالى على ادارتها الرئيسان سليمان فرنجيه والياس سركيس، ولم تتوقف إلا بعد التوصل الى اتفاق عرف بـ”اتفاق الطائف”، وانتخب رينه معوض رئيساً لأنه كان مصمماً على تنفيذه تنفيذاً دقيقاً كاملاً، فتم اغتياله وانتخب خلفاً له الياس الهراوي ثم العماد إميل لحود في ظلّ وصاية سورية لم تنفذ هذا الاتفاق إلا استنسابياً وانتقائياً كي لا تقوم في لبنان دولة قويّة تستطيع بسط سلطتها وسيادتها على كل أراضيها بقواتها الذاتية ومن دون حاجة الى أي قوّة مستعارة. وقد أدى تعذّر قيام هذه الدولة الى استمرار الوصاية السورية على لبنان 30 عاماً خلافاً لاتفاق الطائف.
ولم يتمّ انتخاب العماد ميشال سليمان رئيساً للجمهورية إلا بعد الاتفاق على ما عرف بـ”اتفاق الدوحة” الذي تشكّلت بموجبه حكومة وحدة وطنية، واجراء انتخابات نيابية على أساس قانون الستين معدلاً. لكن “حزب الله”، ومن معه، لم يحترم هذا الاتفاق ولا ساعد على إقامة دولة قويّة لئلا تزول دولته، ولا قبل حلاً لمشكلة سلاحه في إطار استراتيجية دفاعية يتم الاتفاق عليها، فانتهى عهد الرئيس سليمان من دون إقامة الدولة القويّة المنشودة بسبب تمسّك “حزب الله” بسلاحه ورفض وضعه في كنف الدولة ولا حتى أن يكون قرار استخدامه في الزمان والمكان للدولة بل أن تبقى حرية استخدامه للحزب وحده… وهكذا ظل لبنان يعيش وضعاً شاذاً تعذّرت معه إقامة الدولة منذ العام 1975 الى اليوم، تارة بسبب الحرب الداخلية وحكم الميليشيات، وتارة أخرى بسبب الوصاية السورية التي عرقلت قيام الدولة لئلا تستغني عن وصايتها، والآن بسبب إصرار “حزب الله” على الاحتفاظ بسلاحه خارج الدولة لأن له مهمة “مقدسة” لم تنته بعد… وقد لا تنتهي إلا بعد تحرير كل الاراضي اللبنانية والعربية والفلسطينية المحتلة والى ان يتحقق السلام الشامل في المنطقة، وربما بعد تحرير سوريا والعراق واليمن من الارهابيين والتكفيريين. وهذا معناه ان لا دولة قويّة في لبنان ما لم تنته المهمات الموكولة الى “حزب الله” في المنطقة والتي يصفها بـ”المقدسة” و”الإلهية” بقيادة إيران التي تمد نفوذها وتصدّر ثورتها الى دول الجوار.
والتساؤل الذي يطرحه البعض هو: ما نفع انتخاب رئيس للجمهورية في ظل الوضع الشاذ الذي يضطر معه الى مواصلة إدارته كما فعل اسلافه، وهل في الامكان الخروج من هذا الوضع قبل انتخاب رئيس للجمهورية يكون انتخابه بداية قيام عهد جديد وجمهورية جديدة، ودولة قويّة قادرة على بسط سلطتها وسيادتها على كل أراضيها، فلا تكون سلطة غير سلطتها ولا قانون غير قانونها ولا سلاح غير سلاحها؟
الواقع أن ليس في الامكان تحقيق كل ذلك قبل أن يستقر الوضع في سوريا خصوصاً وفي المنطقة عموماً. لكن انتظار ذلك قد يطول ولبنان لم يعد سياسياً وأمنياً واقتصادياً في وضع القادر على الانتظار، وهو وضع هش وسريع العطب. لذلك لا بدّ من أن يبدأ أي حلّ بانتخاب رئيس يكون أهلاً لاجراء التغيير بهدوء واصلاح ما يجب اصلاحه، لأن لا حلّ يرى النور ما لم يبدأ بانتخاب رئيس وتبدأ مرحلة العبور الى الدولة التي لا عبور اليها ما دام السلاح خارج الدولة.