لا داعي للتعمّق في تطورات الأيام الماضية وهي كانت بمجملها تتعلق بكيفية إعادة إحكام سيطرة أمراء الطوائف على السلطة ووضع معايير جديدة لتقاسمها على قاعدة الأقوياء في طوائفهم، لتصبح أعرافاً سياسية فوق دستورية ولها قوة القانون، كعرف الجريمة السياسية والفساد الحكومي. إنّه زمن الأقوياء ولا قيمة فيه للأفراد الضعفاء في الطوائف أو الوطن.
الضعفاء هم الأفراد المستقلّون الفارّون أو المطرودون من الطوائف. وهناك تاريخ حافل للمستقلين في لبنان، أيام لبنان الاستقلالي أو الايديولوجي أو الحزبي، أو أيام التعسكر السياسي والطائفي، وأيام الاحتلال والوصاية. وحتى في المرحلة الأخيرة بقي هناك طيف كبير من الأفراد المميّزين وكانوا دائماً يحاولون الحفاظ على شيء من الفردية والاستقلالية.
لا وجود الآن للفرد اللبناني النموذج المستقل المتمرّد على الجماعة بنجاح وتأثير، ولا وجود للفرد السياسي المجدد القادر على تحريك الواقع نحو الازدهار والتقدم، ولا لمفكر كبير تثير أفكاره وكتاباته حالاً من التفاعل الفكري بين التأييد أو النقد أو التنوّر، وكذلك الأمر بالنسبة للمبدعات والمبدعين. لا أحد يُحدث صدمة تنتج موجة أو حيوية كما هو الحال في كلّ المجتمعات الحية قديماً وحديثاً إذْ تعبر المجتمعات عن خصوبتها بأفرادها المجددين، وكما يقول الفضل شلق «الفرد هو الضمير وهو ابن المجتمع».
كثيرون هم الأفراد في الحياة الوطنية السياسية الطويلة الذين اخترقوا الواقع وأثّروا وغيروا وأحدثوا حالاً من التفاعل والانقسام حولهم، وأغلبيتهم اغتيلوا. وبعد كلّ اغتيال كان الأفراد الباقون يسكنون ويتطبعون، بمعنى أوضح كلّ الجرائم التي ارتكبت بحقّ الأفراد الكبار في تاريخ لبنان لم تحدث ردة فعل تُغيّر من مسار الفعل، باستثناء الجريمة الأخيرة حيث كانت ردة الفعل كبيرة ومفاجئة أربكت مسار الجريمة ولا تزال.
عند وقوع الجريمة الأخيرة كان هناك حشد هائل من الأفراد في ظل تلاشي الطوائف والأحزاب. أحدث أولئك الأفراد طوفاناً أغرق واقعاً كبيراً كان قد دام عشرات السنوات وأنتج نخبة سياسية جديدة في هذا الفريق أو ذاك. فجاء مسلسل الاغتيالات ليؤكد في كلّ مرة أنّ الخوف هو فقط من الأفراد القادرين على تجسيد ضمير المجتمع. رأينا اغتيالات دموية معروفة ومعلنة وهم كوكبة من الشهداء، وكانت هناك اغتيالات أخرى سياسية ومعنوية وبالعشرات وربما بالمئات غير معلنة وربما غير معروفة وهم الآن أضعف من أن يعبّروا عن اعتراضهم أو حتى الإعلان عن بقائهم على قيد الحياة، لأنّهم تكيّفوا مع سحقهم وتأقلموا مع اصطفافهم خارج قناعاتهم، ففقدوا ميزة تمرّدهم وأصبحوا ذكرى أفراد وهم ليسوا شهداء.
الطوائف في لبنان تعرف ماذا تريد وتختلف وتتوافق حول ما تريد. المأساة في لبنان هي في الأفراد المستقلين، فطوائفهم تحتقرهم ولا تريدهم لأنّهم يحرّضون على الوعي مما يضعضع انتظام العوام المطيعين الذين بولائهم وطاعتهم يصبح الأقوياء اقوياء.
ليس لدي اعتراض على ما يحدث أو ما سيحدث، لأنّه شأن طائفي لا قيمة لرأينا فيه. وليس لدي عتب على المستقلِّين المستَلْقين على ظهورهم لأنهم عاجزون. وليس لدي اقتراح أو دعوة للمستقلين أو «المعتدلين» كما خاطبهم سمير فرنجية خلال لقائنا بضيافة الصديقة وردة الزامل في مطلع هذا العام. وليس لدي طموح أو وهم أو اعتقاد أنّ الطائفيين قادرون على بناء دولة او استقرار او مستقبل للبلاد. وبعدما أصبح من المستحيل أن نعيش كأفراد مستقلين محتَرَمين في لبنان، فإنني الآن أبحث عن إجابة على سؤالي الأخير وهو: كيف نموت كأفراد غير طائفيين في لبنان؟