يحقّ لحلفاء السعودية في لبنان أن يخافوا من أخذ لبنان إلى «المحور الإيراني». فالرئيس ميشال عون حليف أصيل لـ«حزب الله». أمّا أن يخاف حلفاء إيران من أخذ لبنان إلى «المحور السعودي» فهو أمرٌ غير مفهوم… إلّا إذا كان هؤلاء يظنّون أنّ عون قد يقع في إغراءات هذا المحور و«ينقلب» عليهم، وهذا مستحيل.
في الأيام الأولى لانتخاب عون، كانت هناك «هجمة» إيرانية – سوريّة على القصر. وساد انطباع بأنّ وزير الخارجية الإيرانية محمد جواد ظريف وزميله السوري لشؤون الرئاسة منصور عزّام أرادا إعطاء «دمغة» واضحة للعهد، «وعلى الذين يَعنيهم الأمر أن يفهموا»!
عون والمحيطون به لم يعلِّقوا. فالزيارتان الإيرانية والسورية، للتهنئة، ولا داعي لإعطائهما أبعاداً أكبر.
ولكن، سرعان ما جاء «الردّ» الخليجي: مستشار الملك السعودي في القصر، يوجّه دعوةً إلى الرئيس لزيارة الرياض فيعِد بتلبيتها بعد تأليف الحكومة. وبعده، وزير خارجية قطر. وعلى الطريق موفدون من الإمارات والكويت والبحرين وسواها.
البعض يسجِّل «نقزة» في بعض الأوساط الحليفة لإيران من التقارب المستجدّ بين عون والرياض. فإذا تطوَّرت العلاقة بين الطرفين، هل ستكون على حساب العلاقة مع إيران، وعلى حساب دورها والطموحات التي ترمي إلى تحقيقها في عهدٍ محسوب عليها؟
بكلمةٍ أخرى، كان الإيرانيون مرتاحين إلى «انسحاب» السعودية من لبنان، وهم استفادوا من معاقبتها لحلفائها بسحب مظلة الدعم عنهم في الفترة
الأخيرة. فأيّ فراغ في الموقع السعودي في لبنان يمكن أن تملأه إيران سريعاً.
فالجمهورية الإسلامية الإيرانية التي تمسك بزمام الإدارة المركزية في العراق، وتسيطر على «سوريا المفيدة»، لا يمكن أن تتخلّى عن سيطرتها على لبنان، لأنّ هدفها هو مدّ الخطّ الاستراتيجي الذي يوصلها إلى البحر الأبيض المتوسط. وهي لم تقاتل وتدفع الأثمان الباهظة على كلّ جبهات الشرق الأوسط لتتخلّى عن لبنان.
إذاً، الإيرانيون المعروفون بأنّهم يحوكون السجّادة بصبر شديد، خيطاً خيطاً، يتأمّلون اليوم بصمت ما يجري في لبنان. ويراقبون كلّ شي، من النزاع على تأليف الحكومة ومسار العهد الجديد إلى الانفتاح الطارئ بينه وبين الخليجيين العرب. ولكن، من المؤكّد أنّهم سيتدخّلون في الوقت
المناسب، وإذا دعَت الحاجة، أي إذا شعروا بأنّ مصالحهم في خطر.
في هذا الشأن، يعتقد العالمون أنّ أيّ خطر من هذا النوع ليس وارداً بوجود عون في الحكم. فهو يَعرف تماماً حدود اللعبة الإقليمية في لبنان، ولن يُضيّعَ البوصلة، ويدرك أنّ أيّ خَلل في هذا الشأن يمكن أن يقود لبنان إلى التصادم المذهبي ويوقع في كارثة. الأرجح هو أنّ عون ينطلق في مقاربته للعلاقات مع المحاور الإقليمية من منطلق فَهمه لدور لبنان ورئيس الجمهورية تحديداً.
فالرئيس يكون مرتاحاً في ظلّ توازن الحضور السعودي والإيراني في لبنان، لأنّ هذا التوازن يدعم التوازن السنّي – الشيعي فيه، ويَسمح للرئيس المسيحي القوي أن يشكّل ضمان التوازن.
ففي المراحل السابقة، كان رؤساء الجمهورية من الضعف بحيث عجزوا عن الاضطلاع بهذا الدور. وأبرزُ ميزات العهد الجديد هو قدرته على أن يصون التوازن الوطني. ولذلك، لا يجوز أن يعيش العهد عقدةَ التعاطي مع أيّ قوّة إقليمية، سواء كانت السعودية أو إيران، ما دام السقف هو المصلحة اللبنانية.
.
ولكن، ماذا يريد السعوديون اليوم من لبنان، ومِن رئيسه، بعد فترة من الانكفاء المتعمّد؟
المؤكّد أنّ التوجهات السعودية الحالية هي نتاج قراءة جديدة للتوازنات، لا على الساحة اللبنانية فحسب، بل على مساحة الشرق الأوسط. ففي ظلّ ستاتيكو المراوحة حتى إشعار آخر في سوريا والعراق واليمن وسواها، حيث لا رابح ولا خاسر في المطلق، تقوم إيران ببسط نفوذها. كما تستفيد إيران من الانسحاب السعودي والإرباك التركي وبروز انشقاق مُهِمّ في «الجبهة» العربية مع اقتراب مصر أكثرَ فأكثر من دمشق. واقتنع الخليجيون بالعودة إلى لبنان لملءِ فراغ ستستغله إيران على المستويات السياسية والاقتصادية.
وأبرز علامات التغيير في الموقف السعودي الموقفُ من الرئيس سعد الحريري. فالواضح أنّ الرياض اقتنعت اليوم بمفهوم الحريري لخصوصية الحالة اللبنانية، وعادت إلى تغطيته بكلّ ما في الكلمة من معنى، وتسهيل مهمّته، بعد مرحلة من سوء التفاهم كانت ناتجةً من هوّة في مقاربة الخصوصيات اللبنانية.
ليس خافياً أنّ المملكة التي تعرّضت سابقاً لهجوم من حلفاء إيران في لبنان، وفي ذروة حرب اليمن، أرادت أن يقوم حلفاؤها، ولا سيّما منهم تيار «المستقبل»، بمواجهة الهجوم بمِثله، ورغبَت في أن يسلك الحلفاء مساراً أكثر تشدّداً. لكنّ هناك سقفاً من التوتر حاوَل الحريري أن لا يَبلغه الوضع اللبناني، لأنّ للحالة اللبنانية خصوصياتها.
حرصَ السعوديون على أن لا تبلغَ الساحة اللبنانية حدود المواجهة المذهبية، لكنّهم كانوا يميلون إلى دور أكثر تشدّداً لحلفائهم. ولم يكن هناك انسجام كامل بين الرياض وحلفائها اللبنانيين حول الأسلوب. ويبدو أنّ السعوديين اقتنعوا بضمانة عون – الحريري لاستعادة التوازن بين المحاور في لبنان، وتالياً اقتنعوا بمفهوم الحريري لخصوصية الحالة اللبنانية الدقيقة.
وستكون الترجمة أن يعود السعوديون وسائر الخليجيين العرب بكلّ ثِقلهم إلى لبنان، سياسياً واقتصادياً. وهذا الأمر، سيبدأ بعودة التغطية الخليجية للاقتصاد والمال في لبنان، في شكل مبادرات خاصة ورسمية، ما يريح أيضاً اللبنانيين العاملين في الخليج، على اختلاف فئاتهم، وعودة المستثمرين والسيّاح الخليجيين إلى لبنان.
وستعيد المملكة العربية السعودية إحياءَ هبة الــ 3 مليارات دولار للجيش اللبناني. وعلى الأرجح، إنّ هذا القرار سيتوِّج زيارة عون للرياض، المتوقع أن تتمّ بعد تأليف الحكومة. لكنّ السعودية تريد أن يكون الإفراج عن الهبة جزءاً من برنامج تضمن فيه أنّ لبنان لن يكون أداةً في يد إيران.
هل تتضرّر إيران وحلفاؤها من العودة السعودية، ما يَدفعها إلى العمل لإحباطها؟
عند حدود «تصحيح الخَلل» في العلاقات بين لبنان الرسمي والسعودية، لن تقوم إيران بأيّ محاولة تعطيل. لكنّها على الأرجح ستعمل لإحباط أيّ محاولة لاستعادة السعودية دورَها التقليدي، بصفتها «الأخ الكبير» الذي له «المَوْنة» على الحكومة اللبنانية. أي، سيحاول الإيرانيون أن يضعوا الضوابط لعملية التطبيع بين لبنان والمنظومة الخليجية العربية لتبقى لهم الكلمة الأقوى في لبنان.
وفي ما يتعلق بانفتاح عون على السعوديين، هذا يعني أنّ إيران ستراقب بدقّة مسارَ الانفتاح، وبالتأكيد سيقول حلفاؤها لحليفهم عون رأيَهم بمقدار الانفتاح وطبيعته. وفي أيّ حال، إنّ النهج الذي سيَسلكه عون لن يكون استفزازياً في الاتّجاهين. فهو لن يُخيِّب السعوديين ولن «يَخون» الإيرانيين.
عند هذا التوازن، يُفترَض أن تمرّ الأمور على ما يرام. المهمّ أن تبقى لرئيس الجمهورية وسائر أركان الحكم الموهبة الآتية: الرؤية السليمة للسير بين النقاط أو الألغام، وإبقاء الاشتباك الإيراني – السعودي خارجَ الأرض اللبنانية. فغالباً، يقع الانفجار عندما يدوس أحدهم – بكلّ ثقة ونيّة طيّبة – على اللغم الذي لا يراه!