منذ 16 آذار 2011 تاريخ اندلاع الأزمة تغيّرت أشكال الحروب التي شهدتها سوريا. ففي جولات العنف لم يتبدّل سوى ابطالها ولم تتغيّر سوى تنظيماتها، وغاب المنتدبون وحضر الأصيلون من دول وجيوش. وصغرت وتوسّعت مساحات سيطرة النظام وأعدائه الى أن جاءت العقوبات الأميركية الجديدة على إيران وانعكاستها المتوقعة على سوريا لتوحي بمتغيّرات في المشهدَين العسكري والسياسي، وعليه كيف سيكون شكلُ الحرب الجديدة؟
منذ أن انطلقت سلسلة مؤتمرات جنيف وبروكسل ولندن وفيينا وسوتشي وآستانة ومعها سلسلة اللقاءات التي شهدتها انقرة وانطاليا والكويت وروما وتلك التي شهدتها أروقة الأمم المتحدة واجتماعات مجلس الأمن الدولي التي خُصّصت لمعالجة الأزمة السورية، لم يشعر المراقبون الديبلوماسيون ومعهم الخبراء العسكريون امكانية الإنتقال الى الحلول السياسية والديبلوماسية التي تكدّست اوراقها بعضها فوق بعض في كثير من الأروقة والمكاتب الأممَيّة والإقليمية والدولية والمحلية.
وعلى رغم كل المشاريع التي وُضعت تارة تحت اسم «المرحلة الإنتقالية» وتلك التي تحدّثت عن آلية انتقال السلطة أو إعادة تنظيمها وتوزيع المسؤوليات ومواقع القوى الجديدة، فقد سُدّت كل السبل اليها وانهارت كل الجهود الدولية التي بُذلت وصولاً الى مرحلة التحضير لـ»الدستور السوري الجديد» الذي وَضعت موسكو مسودّته الأوّلية والذي انتقلت به الى أروقة الأمم المتحدة لترميمها وتحصينها لتحظى بالرعاية والموافقة الدولية على أمل توفير الظروف الطبيعية للإنتقال الى مرحلة بناء «سوريا الجديدة».
لقد كان واضحاً أنّ مجمل اوراق العمل التي وضعتها القوى الدولية والمحلّية لم تنتج أيَّ صيغة تنتقل بالنزاع الدموي الى مرحلة سياسية أو دستورية، وكانت النتيجة المباشرة أن استمرّت موجات التدمير والقتل والتغييرات لتنعكس تبدّلات دراماتيكية في جغرافيّة سوريا وتكوينها الطائفي والمذهبي والعرقي والعشائري الذي شمل محافظاتٍ ومدناً بكاملها ولم يظهر أنّ هناك أيّ خط أحمر يحول دون استخدام أيّ طرف كل قواه العسكرية والسياسية والديبلوماسية والإقتصادية لتحقيق أهدافه المباشرة الآنية وتلك البعيدة المدى.
قبل أن تصل أيّ من الجهود التي بُذلت الى أيِّ نوع من الإستقرار المنشود فقد تعدّدت كل أشكال النزاع ومعها المواقف والانقلابات التي ولدتها التطوّرات المتلاحقة عقب بعض المحطات الكبرى، وأبرزها تلك التي يمكن الإشارة اليها بتوسّع «داعش» من العراق الى سوريا ومن بعدها انغماس إيران في الحرب السورية وحلفائها من كل اقطار العالم من العراق وافغانستان وباكستان ولبنان الى أن توّجت تلك المراحل بالتدخّل الروسي في نهاية أيلول من العام 2015 والذي تلاه الدخول التركي المباشر في الحرب شمال البلاد، وهي مراحل واكبت ولادة الحلف الدولي ضد الإرهاب عقب «بيان جدة» في 11 أيلول 2014 عندما ضمّت الولايات المتحدة جهودَها و10 دول عربية وغربية لإعلان الحرب على الإرهاب.
وعلى هامش كل هذه التبدّلات في المواقف كانت الساحة السورية تتكيّف معها، فبقيت الجبهات مفتوحة على شتى الاحتمالات مهما تبدّلت الخرائط الخاصة بالسيطرة والإنكفاء والتي تغيّرت قياساً على موازين القوى المحلية والخارجية الى أن جاء قرار الرئيس الأميركي دونالد ترامب بتجميد اعتراف بلاده بالتفاهم النووي الإيراني مع مجموعة الدول ( 5+ 1) وانعكاساته على الأزمة السورية، فظهر أنه شكّل انعطافةً كبيرة في مجريات العمليات العسكرية والتحوّلات في الأزمة السورية.
وبناءً على الواقع الجديد الذي أحدثته السياسة الأميركية في المنطقة يبدو واضحاً أنّ هذه الأزمة باتت على أبواب شكل جديد من أشكال الحروب السورية المتنقلة والمتقلّبة ما يوحي بحرب جديدة في شكلها ومضمونها وأبطالها. فالثلاثي الأميركي ـ البريطاني ـ الفرنسي عاد الى قيادة دور أكبر من السابق، وتداخلت الخطط الجديدة مع تورّطٍ أكبر للإسرائيليين في مجريات الحرب اليومية وانخرطت إيران في الحرب المفتوحة مع إسرائيل في شكل جديد من أشكال «الجهاد المقدّس» الذي وعدت الثورة الإيرانية به منذ قيام «الجمهورية الإسلامية» عام 1980 الى اليوم وباتت القوات الإيرانية بطائراتها المسيّرة وشبكة صواريخها وعتادها العسكري المتنوّع على مسافة كيلومترات قليلة من الأراضي الفلسطينية والسورية المحتلة ما يسهّل المواجهة المباشرة بين الطرفين.
عند هذه الخريطة الجديدة التي رسمتها التطوّرات الأخيرة والتي زادت من حدّتها العقوباتُ الأميركية على إيران وامتداداتها الخارجية حتى الساحة السورية ظهرت بوادر الحرب الجديدة وتحدّثت كل التقارير الديبلوماسية والعسكرية عن كثير من السيناريوهات العسكرية التي يمكن أن تطيل من فصول الحرب السورية بما يوازي ما عبرته من سنوات المحنة الى الآن. وذلك بعد إقفال كل المشاريع والمقترحات السياسية والدستورية التي سعت اليها القوى الدولية والأمم المتحدة ووضعها على الرف، لتبدأ فصولُ «الحرب الجديدة» والتي يمكن الدلالة اليها بالمؤشرات الآتية:
– الحرب المعلنة التي يقودها الحلف الثلاثي الجديد الذي يضمّ كلّاً من الولايات المتحدة ومعها فرنسا وبريطانيا، ومن خلفها إسرائيل ودول مجلس التعاون الخليجي.
– تحديد حضور ودور الإيرانيّين وحلفائهم في سوريا بعد «داعش» و»المنظمات الإرهابية» هدفاً اساسياً لكل الحملات العسكرية والديبلوماسية المحتملة التي سيخوضها الحلفان الثلاثي والدولي. وإذا انضمّ الروس الى هذا المطلب إثر حديث موسكو عن ضرورة سحب كل القوى الخارجية من سوريا بما فيها الإيرانية ستتغيّر موازين القوى حكماً.
– بداية انتقال الخلاف الروسي ـ الإيراني الى سطح الأحداث بعد فترة من النزاع الخفي بينهما على أكثر من ملف داخلي سوري سياسي ودستوري وإجرائي. وليس سرّاً القول إنّ القانون الرقم 10 الخاص بقوانين التملّك من أبرز موضوعات الخلاف وقضايا أخرى تتصل بحماية المناطق الآمنة وإعادة النازحين من الداخل والخارج اليها.
وتأسيساً على هذه المعطيات التي ستدخل الأزمة السورية في جولة عنف جديدة لا يُعرف من اليوم مداها وشكلها، فإنّ ثابتة وحيدة يمكن الإشارة اليها وقد ضمنتها القوى المختلفة أنه يُمنع المَسّ بالمواقع القيادية للجيش السوري لئلّا يتكرّر الخطأ الذي ارتُكب عند حلّ الجيش العراقي قبل 15 عاماً. والى هذا الإستثناء فإنّ كل التقارير الديبلوماسية والعسكرية تتحدث عن سيناريوهات مختلفة توحي بالحرب الجديدة المتوقعة شكلاً ومضموناً، فلا يجمعها بالجولات السابقة منها سوى أنّ الأراضي السورية هي مسرحها بطول مساحتها وعرضها.