بعد سقوط مدينة تدمر في قبضة «داعش» واقتراب التنظيم من حمص، المحافظة السورية المتلاصقة حدودياً مع لبنان، يشعر المسيحيون في عكار بأنّ الخطر يطرق أبوابهم، وخصوصاً الذين يقطنون القرى القريبة من الحدود مع سوريا. والمفارقة أنّ عدداً من القرى العلوية تقع على الحدود مباشرة، فيما تمتدّ قرى مسيحية عدة على طول الحدود الشمالية في اتجاه البقاع، فيما لا تُخفي «داعش» منذ عام على الأقل عَزمها الاستيلاء على مَنفذٍ بَحري، وهنا تكمن أهميّة عكار الاستراتيجية نظراً لموقعها الجغرافي، بالإضافة إلى وجود مطار القليعات في عكار الذي لا يبعد سوى 3 كلم عن الحدود مع سوريا، والذي يهمّه استخدامه لأغراض عسكرية.
زاد من مخاوف المسيحيين مقتل أسعد الوراق، أحد رجال الاعمال البارزين خلال الفترة الماضية، وهو من بلدة منيارة المسيحية، بعدما شاعت معلومات عن دوره في كشف تجنيد «داعش» عدداً من الشبّان المسيحيين بمَن فيهم أحد أقاربه، الأمر الذي دفعَ خلايا نائمة لـ«داعش» إلى نصب مكمن له وقتله.
أمّا الخطر الآخر فسببه أعداد النازحين السوريين التي فاقت عدد سكان أهل عكار، ليصِل الى نحو 650 ألف نازح، وهذا يشكّل هاجساً أمنياً لا يُستهان به، ما دفعَ القرى المسيحية الصّرفة إلى عدم إيواء نازحين سوريين ومطالبة الدولة بضبط أوضاعهم جرّاء كثرة المشاكل، فيما يهمس البعض لـ«الجمهورية»: «إذا فلتت الأمور… مَن يضمن عدم انخراط قسم منهم في مجموعات «داعش» والاعتداء علينا؟».
مطار القليعات والمنفذ البحري
لا تنفي إحدى الشخصيات المراقبة في عكار وجود خطر حقيقي في حال قرَّرت «داعش» الزحف على حمص وإكمال طريقها في اتجاه لبنان، وتقول: «تشير تقارير مؤكدة الى خلايا أمنية نائمة جاهزة ومرتبطة بـ«داعش» قد يجري تحريكها عند اللحظة المناسبة، وينبغي الاعتراف بأنّ بيئة حاضنة تكوّنت للمتطرفين الاسلاميين في قرى عكارية عدة، وهي قد تنطلق لتنفيذ اضطرابات أمنيّة وزعزعة الوضع في حال شعرت بأنّ الامور قد أفلتت من أيدي القوى الامنية والجيش اللبناني».
وتتوجّس مصادر أخرى من الاحتمالات المطروحة، وتستعرض لـ»الجمهورية» تصوّرها للوضع في حال وقوع معركة حمص. وتشير إلى أنّ اجتياح «داعش» حمص والمناطق المحيطة قد يكون من باب الاحتمالات الآن، لأنّ أولويات التنظيم هي عدم تمدّد الاكراد في شمال سوريا على حساب مناطق نفوذه، وكذلك الامر في اتخاذ خطوة الهجوم نحو العاصمة دمشق.
لكنّ هذه الأولويات لن تُلغي احتمال تبدُّل الوضع خلال 24 ساعة، خصوصاً مع سَعي «داعش» الى الاستيلاء على منفذ بحري بغية استخدامه لأغراض عسكرية، الأمر الذي قد يدفعها الى إعادة تحديد أولوياتها والتصويب نحو هدف تكتيّ، هو مطار القليعات.
يتسلّحون
هذه المخاطر دفعت أعداداً كبيرة من مسيحيّي عكار إلى سلوك درب اقتناء السلاح الفردي والمتوسّط للدفاع عن النفس، وسط ازدياد طلبات التسلّح، فيما كشفت معلومات خاصة لـ»الجمهورية» حصول القرى العلوية في سهل عكار على أسلحة نوعية ودعم لوجستي، خصوصاً أنّ نحو 20 ألف علوي يسكنون في عكار.
جغرافية متداخلة وتهريب للسلع والسلاح
عند نقطة معينة وفي قرية الدبابية المارونية، يمكن رؤية قلعة الحصن وتلكلخ بالعين المجرّدة. والمفارقة أنّ المناطق السورية على الجانب الآخر من الحدود يتقاسم السيطرة عليها الجيش النظامي والمجموعات الاسلامية المرتبطة بـ«داعش» و«النصرة» بعدما أخليَت لهم الساحة نتيجة أفول «الجيش السوري الحر»، في وقت أعلن الإسلاميون منذ عامين قلعة الحصن إمارة إسلامية قبل أن تسيطر عليها وعلى محيطها قوات النظام السوري.
في الطبيعة الجغرافية، يلفت التداخل الحدودي ما بين لبنان وسوريا شمالاً، خصوصاً في منطقة وادي خالد التي تضمّ نحو 9 قرى، والطريف أنك قد تصادف منزلاً صالونه وغرفة جلوسه في لبنان وغرف نومه في سوريا!
تتمركز في وادي خالد عشائر البدو التي لم تحصل على الجنسية اللبنانية إلّا بعد سنوات طويلة، فيما يبقى التهريب السِمة البارزة لأهالي هذه المنطقة… فمنذ زمن بعيد كان تداخُل الحدود مصدراً أساسيّاً لجَني الثروات، ومع اندلاع الثورة السورية عام 2011 إنقلب الوضع وتَبدّلت أشكال التهريب من المحروقات والادوات المنزلية وغيرها، واصبحت وادي خالد مقصداً لتهريب المقاتلين والسلاح الى سوريا.
اليوم يتردّد اسم وادي خالد كأحد المعابر البارزة التي قد يسلكها «داعش»، الأمر الذي دفع الجيش اللبناني الى تثبيت نقطة عسكرية عند مدخل بلدة شدرا المسيحية لضَبط الوضع على الحدود، فيما يؤكّد سكان هذه المنطقة أنّهم على علاقة ممتازة مع محيطهم المسلِم في قرى وادي خالد ومشتى حسن ومشتى خالد.
إرتياح حذِر في شدرا
خلال جولتنا، يستقبلك أهالي منطقة شدرا بوجوه بَشوشة لا تخلو من الحذر والتساؤل عن المهمة التي دفعتنا الى زيارة المنطقة، ويُصرّ الأهالي على طمأنَتِنا، في محاولة منهم لنقل صورة مريحة للأجواء في المنطقة: «ليس هناك ما يدعو للقلق، وجيرَتنا مع وادي خالد ومشتى حسن ومشتى حمود هي مَن تحمي وجودنا منذ آلاف السنين. الضمانة الوحيدة بالنسبة إلينا هي الوحدة الوطنية ووجود الجيش اللبناني والتفافنا حوله، إذ لطالما كانت عكار خزّان الجيش ونحن نَفخر بذلك».
خيارنا واحد: البقاء
في المقلب الآخر، لا يُظهِر كاهن رعية عيدمون – التليل لمطرانية الروم الارثوذكس نيكتاريوس مخول القدر نفسه من التفاؤل، إذ إنّ ميزة مطرانية الروم الارثوذكس امتداد رعاياها الى عمق الداخل السوري نحو الساحل وحمص، ومن هنا تسميتها مطرانية «عكار وتوابعها».
الأب نيكتاريوس اختصَر الحديث بوَضع خلاصة إيمانية مفادها: «وحدتنا ضمانتنا. ليست القضية هجوم مجموعات مسلّحة علينا وعلى منطقتنا بقدر ما هي الحرص على عدم الاحتراق بلهيب الأزمة السورية».
ويقول: «منذ 4 سنوات والمعارك مندلعة في جوارنا، ونسمع أصوات الانفجارات في منازلنا وقرانا… لكنّ السؤال الكبير يبقى: كيف نحمي عائلاتنا اذا وقع الانفجار الكبير؟ هذا هو اللغز الذي لا أجِد له جواباً سوى التشَبّه بشهادة المسيح وليس هناك من خيار أمامنا إلّا البقاء فوق هذه الارض والموت من أجلها، لأنّ في ذلك ترجمة حقيقية لعقيدتنا المسيحية».