في شهر أيلول من عام 2011، أفرجت السلطات عن أحد الصحافيين اللبنانيين، بعد أن أمضى أكثر من 29 عاماً مسجوناً في الإنفرادي داخل أقبية سجونها، عانى خلالها من التعذيب والإذلال والترهيب وتحطيم الأحلام. 29 عاماً ولم تتجرّأ أي وسيلة إعلامية، مقروءة أو مسموعة أو مرئية، تسليط الضوء على قضية توقيفه وظروف سجنه القاهرة ولا حتى يوم الإفراج عنه.
وفي 3 أيار 2019، ولمناسبة اليوم العالمي لحريّة الصحافة، وافق هذا الصحافي على إلقاء محاضرة يروي فيها قصتّه ومخاوفه وأحلامه. اعتلى المنصّة، واضعاً وجهاً على وجهه ويلبس ثياباً غير اعتيادية، لكن لم يُسمع صوت تصفيق لأنّ أحداً لا يعرفه، لكنه بدأ كلمته قائلاً:
«مرحباً، أنا اسمي صحافي وعمري 8 سنوات. لا تستغربوا سنّي، لأنني وُلدت يوم مسكت القلم من جديد وبدأت حياةً لن تنتهي بموتي على عكس عمر جسدي.
عمري 8 سنوات، ولم يكن فيها طفولة أو مراهقة أو شباب، بل سنون بدأتُ من أول يوم فيها السير بخطى ثابتة على مسار قناعاتي وثقافتي وحريّتي في بلد، نادراً ما يقدّر هذه الخصال، لأنّ كثيراً ممن يكتبون يستعيرون قناعات غيرهم، ويحتالون على الناس بثقافة أحزابهم وتيّاراتهم وأفكارهم المهترئة، ولا يتلذّذون بالحرّية أصلاً لأنّهم يعانون حساسية عليها».
وأكمل قائلاً: «أرجو أن لا تعتبروا كلامي عظة أو فلسفة، لكن هل انتبهتم أعزائي، أنّه إذا ارتكب المهندس غلطة يقع مبنى، وإذا ارتكب الطبيب غلطة يموت مريض، وإذا ارتكب المحامي غلطة يضيع حقّ… أمّا إذا ارتكب الصحافي غلطة ينهار بلد بأكمله بكل ما فيه من مبانٍ وأشخاص وحقوق. ولكن بمجرّد أن تنظروا إلى وضع النقابات في لبنان، ستجدون أنّ نقابة المهندسين والأطباء والمحامين لا تترك خدمة إجتماعية أو طبية او تعليمية أو حقوقية إلّا وتقدّمها للمنتسبين إليها، ولا تطلب دعماً إلّا وتجده على عتبتها. في حين انّ المنتسبين إلى نقابتي الصحافة والمحرّرين يكادون ان يكونوا أيتاماً في الخدمات والتسهيلات والحماية المقدّمة لهم، ليس لأنّ النقابتين مقصّرتان، بل ربما لأنّ القوى السياسية لم تعد تهاب أقلام الصحافيين، ولا تفكّر أبداً في تخصيص أموال أو صندوق خاص من موازنة الدولة لحماية أولئك المسؤولين عن حماية الديمقراطية ومحاربة الفساد وفضح الفاسدين والمقصّرين والمتعدّين على حقوق المواطنين.
وأكثر من ذلك، تكرّ سبحة إقفال الصحف، ولم نشاهد أي سياسي أو مسؤول معني بالموضوع أمسك قلمه ليوقّع على حلّ لمئات العائلات التي كانت مؤتمنة على الحرّية، وباتت تقف خلف قضبان العوز والتعتير والبهدلة. محطات تلفزيونية تعاني في إيجاد الأموال لإنتاج برامجها وسدّ ديونها ودفع مرتّبات موظفيها، ولم يرفّ جفن مسؤول. وإذاعات تقلّص برامجها وتشحّل موظفيها وتستعطي من المعلنين للبقاء على قيد الحياة، والمسؤول «داير دينته الطرشة».
الأوطان بلا صحافة تماماً مثل المجتمعات بلا دين، فيمكنكم أن تتخايلوا كميّة الفوضى التي يمكن أن تضرب أي وطن لا تُصان فيه كرامة الصحافيين وحريّتهم. ولا حاجة لتخايل الوضع، فقط إنظروا من حولكم في لبنان إلى المعارك التي يقودها السياسيون بدلاً من الصحافيين، معركة محاربة الفساد، وحماية البيئة، وخفض التلوّث، وجمع النفايات، وقوانين الانتخابات، والديمقراطية، وحقوق الإنسان، وضمان الشيخوخة، والطبابة والتعليم المجّاني، والحريّات، والثقافة والفنون… وطالما انّ السياسيين هم القادة في هذه المعارك بدلاً من الصحافيين، فلن يحصل المواطن على حقوقه.
وفي الختام، وفي اليوم العالمي لحريّة الصحافة، إذا كنتم يا مسؤولين يا لبنانيين تريدون وطناً للجميع، إسعوا الى إيجاد حريّة بيضاء لصحافتكم وليس حريّة لصفحاتكم الملطّخة.