تبنت الجمعية العامة للأمم المتحدة بتاريخ 16 أيلول 2019، قرارا بأكثرية 165 صوتا ومعارضة الولايات المتحدة وإسرائيل، ترحب فيه بمبادرة رئيس لبنان لإنشاء أكاديمية للتلاقي والحوار الإنساني في بيروت، وتشجع أمين عام الأمم المتحدة، ومنظمة الأونيسكو وغيرها من الوكالات المتخصصة المعنية، لدعم هذه الجهود لإنشاء الأكاديمية وذلك من ضمن الموارد المتاحة لها ووفقا لولاية كل منها. وهي طلبت من الأمين العام، إبقاء الجمعية العامة على اطلاع بالنسبة لتنفيذ هذا القرار.
ولم يكتف هذا القرار في فقراته التقريرية، بالثناء على مبادرة الرئيس لإنشاء الأكاديمية، بل أنه عبر في فقرة استهلالية أخرى غير الفقرة التقريرية، عن التقدير لرئيس لبنان، لجهوده لتعزيز دور لبنان كمركز للحوار والتنوع، وخاصة من خلال مبادرة إنشاء أكاديمية للتلاقي والحوار الأنساني.
يمكن لكل مراقب محايد، أن يلاحظ فورا هذا الاستثناء الملحوظ في أسلوب صياغة مثل هذه القرارات، فالقرار أشار إلى جهود فخامته بهذا الصدد، ولم يتحدث عن لبنان الوطن. وقد درجت العادة أن تشيد الجمعية العامة بالوطن الذي يدفع بمثل هذه القرارات وليس بالرموز التي هي في الدول الديموقراطية، أداة لخدمة صورة الوطن. ففي هذا القرار غاب لبنان الوطن، واختصره المجتمع الدولي برئيسه. لم يحصل مثل هذا الأمر سابقا، أقله يوم عملنا في صياغة قرارات لم يكن لها الطابع الثقافي فحسب، بل حملت طابعا مصيريا. كنا نعمل بإسم لبنان، ومن أجل صورة لبنان، وليس خدمة لصورة أي كان بما فيه رئيس البلاد. الدبلوماسية اللبنانية تعمل لخدمة الوطن وليس الأفراد. وقد كان من الممكن أن تثني الجمعية العامة على لبنان لجهوده رغم كل ظروفه الصعبة، لخدمة السلام وثقافة السلام في العالم، ثم تمنح اليونسكو فخامته بمناسبة أخرى، وساما تقديريا لدفعه هذه الجهود وتحقيقها.
كما أن هذا الموضوع ليس وليد ساعته، بل إنّه متابعة لجهود حثيثة قامت بها الدبلوماسية اللبنانية منذ عام 2009 عندما أطلق الدبلوماسي العريق السفير فؤاد الترك، رحمه الله، وبالتشاور مع مفكرين وسياسيين لبنانيين، فكرة إعلان لبنان، وبرعاية الأمم المتحدة، مركزا عالميا لحوار الحضارات، ثم طرحها رئيس الجمهورية العماد ميشال سليمان على منبر الجمعية العامة للأمم المتحدة وعلى غير منبر دولي، وعرضها وزير الثقافة آنذاك د. سليم وردة، على وزراء الثقافة وفاتح المديرة العامة للأونيسكو أيرينا بوكوفا بشأنها.
وإنني أذكر أن أصدقاء السفير الترك أقاموا هيئة مؤلفة من رموز جامعية ودبلوماسية وثقافية وفكرية لمتابعة الموضوع برئاسة القنصل الفخري لبريطانيا السيد وليم زرد، وهو ما زال حيا يرزق. ورعت هذا النشاط جامعة سيدة اللويزة في ذوق مصبح، وقامت منسقة المشروع الدكتورة غيتا حوراني بجولة في عدة دول اغترابية لتحفيز المغتربين وكل مهتم، على توقيع عريضة من عشرة آلاف شخص، تفرض تلقائيا، على أمين عام الأمم المتحدة إضافة بند على جدول أعمال الجمعية العامة لبحث هذا المشروع. وهي زارت المكسيك، وكان لي شرف التعاون معها، ومن ثم مع الهيئة التي ترأسها القنصل زرد، بل أنني ساهمت، وبالتعاون مع اتحاد بلديات الغرب الأعلى، بإقامة مناسبة خاصة لهذه الهيئة في بلدة عيناب في قضاء عاليه، للتأكيد على مشاركة أهلنا في الجبل بهذا المشروع، لاسيما وأن الجبل احتضن المصالحة التاريخية التي دفعت عمليا لاستعادة لبنان بريقه لجهة التنوع الحضاري فيه.
كان بإمكان الدبلوماسية اللبنانية في عهد الرئيس سليمان ومستشاريه القانونيين وغيرهم، اختراع فكرة أكاديمية أو غيرها للدفع بالفكرة. بل كان بإمكان جامعة سيدة اللويزة أن تقيم مثل هذه الأكاديمية، لكن الهدف الحقيقي للدبلوماسية اللبنانية في حينه، كان إنشاء هيئة دولية برعاية الأمم المتحدة، تقوم هي بتمويله وليس لبنان، ولا تعترف بلبنان نموذجا «للرسالة» فحسب، بل تطلق عمليا ومن على أرضه، جهودها العملية العالمية، لخدمة ثقافة السلام وتحقيق التوصيات العديدة التي صدرت دوريا، عن مختلف محافلها الدولية بهذا الصدد، والتي اقتضت تسع فقرات من الفقرات الاستهلالية للقرار بشأن الأكاديمية لاستذكارها.
ومن المحزن أيضا، أن الدبلوماسية اللبنانية لم تصر على إدراج أية فقرة في فقرات القرار، سواء الاستهلالية أو التقريرية، تشير إلى دور دور لبنان الفطري كنموذج الرسالة، فبدا واضحا أن هذا القرار لم يهدف لتبني لبنان نموذجا للعيش المشترك وحوار الحضارات والثقافات، كما كنا نشتهي دائما، بل أثنى على جهود يقوم بها «كعضو في الأمم المتحدة» للمساعدة في تفعيل قرارات وتوصيات اتخذت دوريا وفي محافل عديدة، بهذا الصدد. وقد أكدت التعليقات اللاحقة بشأن هذا القرار سواء من الولايات المتحدة أو من الاتحاد الأوروبي أو غيرها، أن القرار وللأسف، كان له طبيعة سياسية ودعائية أكثر منه قرارا تشغيليا حقيقيا.
ثم إن الدبلوماسية اللبنانية يفترض أن تدرك تماما، أن أي قرار يتناول مثل هذا النشاط الثقافي الدولي، يجب أن يكون جماعيا وأن لا يحظى على الأقل، بمعارضة الولايات المتحدة الأميركية. فمثل هذا القرار لا يمكن أن يتحول إلى قرار تشغيلي للأمم المتحدة ما لم يحظ بدعم المتبرع الأكبر في ميزانيتها، فكيف إذا كانت معارضة الولايات المتحدة للقرار قائمة بحجة الواقع المالي المتعثر للمنظمة الدولية؟
هذا القرار يبقى توصية لهيئات الأمم المتحدة لا أكثر، لدعم مؤسسة سيقيمها لبنان، في حين أن الغرض من النشاط الأساسي للعاملين على هذا الموضوع، كان هدفه أن يقيم المجتمع الدولي بذاته هذه المؤسسة. وعليه، فإن تمويل الأكاديمية سيقع حتما على عاتق لبنان، وسيخضع أي تبرع لها مثل العادة، لرياح التنوع السياسي الذي يحيط بالبلاد، فينزع عفويا عنه، دوره المفترض في جمع المتنازعين ودفع الحوار بينهم.
أنا لم أصفق ولم أترك للأحلام أن تدغدغني بأنه يمكنني بكل تراثي الدبلوماسي، أن أصبح جزءا من هيأته التعليمية، كنت أخشى من بصمة الوزير باسيل التي كنت أثق تماما أنها ستكون لخدمته وخدمة أهدافه وطموحاته المستقبلية. لم أنس، ولا يمكن أن أنسى، كيف وأد معاليه وإدارته الدبلوماسية، فكرة المتحف اللبناني في مكسيكو سيتي، والذي كان سيكون شعاعا حضاريا يجعل لبنان رمزا ثقافيا لا تغيب الشمس عنه. ولا أنسى كيف طمس معاليه ودإدارته الدبلوماسية، فكرة متحف وطني للمغترب ثم أقامه بقرارات فردية في منطقته. أنا مقتنع أن هذا المولود الجميل، ولد قيصريا، وفي وقت سابق لأوانه. كل ذلك في خدمة الشخص لا الوطن، بل وأخشى أن تؤدي ولادته القيصرية إلى وأد المشروع الأساسي، وطي فكرة الهيأة الدولية على أرض لبنان.