“…كُتِبَ عليكُمُ القتالُ، وهو كُـرْهٌ لكُمْ، وعسى أنْ تكرهوا شيئاً وهو خيـرٌ لكُمْ”.
سورة البقرة: 216.
بعدما تطوّر العدوانُ الإرهابيُ الإسرائيلي في لبنان، إلى ذُرْوَةِ المجازر الإنسانية الفاجعة، بما أصابَ الضاحية الجنوبية من بيروت، وقـرى الجنوب والبقاع والجبل، وبما ارتقى من شهداء وأبرياء…
ماذا تُرانا نكتبُ عن هذه الملاحم الدموية؟ كيف نفسّرها، وكيف نشرحُ أسبابَها ونتائجها ومـدى استمرارها، والغوص في غِمارها؟
هل نتصدّى لها: من جانبٍ قومي أوْ عسكري أوْ عقائدي أوْ ديني أوْ سياسي أوْ استراتيجي؟
إنّـهُ أمـرٌ معقّدٌ تنخرطُ فيه شتَّى القوى الدولية، وتتوّرطُ فيه شتّى القوى العربية والإقليمية على غير هُـدىً.
عل صعيدنا نحن، هل يعودُ إلينا أنْ نتطفّـلَ بالمواقفِ وإسـداءِ النصائح: ما إذا كان من الأفضل أنْ نتراجـعَ من منتصف الطريق على أنْ نخسـر ما هو أكثر؟ أوْ إنك إذا أردْتَ السلام فعليك أنْ تستمرّ في الحرب؟
جـلَّ ما نستطيع المناداةُ بـهِ على رؤوس الأشهاد علانيةً جهاراً هو: أنّ المعركة مع العدوّ الإسرائيلي ليست معركة لبنانية حصرية، «وكفى اللُه سائرَ المؤمنين شـرَّ القتال…».
إذا كانت المعركة ضـدّ العدو الإسرائيلي هي: معركة قومية عربية إيرانية عقائدية أخلاقية إنسانية مصيرية، فعلى الجميع أن ينخرطوا فيها، وليس العدو الإسرائيلي عـدّواً للبنان وحـدَه… وليس على لبنان وحـدَهُ أنْ يقاتل نيابـةً عنهم جميعاً، وأن يُستشهدَ نيابـةً عنهم جميعاً، وأنْ تحترق أرضُـهُ ويهجَّـرَ شعبُهُ وتنهارَ دولتُـه نيابـة عنهم جميعاً.
وكأنه ليس للقدس طريقٌ إلّا من لبنان.
لبنان، وحـدَهُ عمليّـاً، يحارب على خطوط النار في الميدان، فيما الآخرون يحاربون بواسطة البيانات، وإدانـةِ العدوان الإرهابي، ويتمنّون الرحمةَ للشهداء وللمصابين الشفاء… وما أروَعَ الصُراخُ على الورق.
أمّـا بعد، فإنَّ ما نستخلصُهُ بحسَبِ الآيـة القرآنية في مطلع المقال، والنظريات المسيحية والفلسفية، أنَّ الأحداثَ المؤلمة على فجاعتها، لا بـدَّ مِـنْ أنْ تحملَ بعضاً من بصيص أمـل.
هذا الذي تجلّى في أعقاب تفجير الأجهزة اللاّسلكية في الضاحية الجنوبية، وتهجير قـرى الجنوب والبقاع، من تضامن لبنانيٍّ حميم والتفافٍ أخويٍّ عريق، هو الذي سفّـهَ الرهانَ الإسرائيلي، وبلْسَمَ الجـرح عملاً بالقول: عند الشدائد تذهبُ الأحقادُ…
لبنان الذي قيل: إنـهُ يعاني شلَلاً مؤسَّساتيّاً، وتقهقراً، طبيّـاً، وتناقضاً شعبّياً، هبّ منتفضاً في شكلٍ جامعٍ لاحتواء رهبـةِ الحدَث، واحتضان مفاعيلهِ، بما تعجز عنه بعضُ الدول المتحضّرة المعافاة، وبما يتوافق مع قـول جبران: «نحن أمّـةٌ تُحتضَـرُ ولكنّها لا تموت».
السيد حسن نصرالله «ثـمَّنَ هذا المجهود وأشادَ بالتضامنِ الوطني الذي أبـداهُ شعبنا اللبناني العزيز تعبيراً عن مشاعره الصادقة…».
البطريرك الماروني بشارة الراعي، ورؤساء الأحزاب المعارضة لحزب الله، تهيّبوا المأساة الوطنية وأعربوا عن حـزنٍ عميق، المناطق اللبنانية إستقبلت النازحين بالأحضان، وهكذا الأبرشيات المسيحية في جبل لبنان والشمال، مطران بعلبك الهرمل «حنّا رحمه»، شكّل لجنة طوارىء لاستقبال النازحين، ولعلّ أبرز ما سمعتُ أحـدَ عناصر القوات اللبنانية يقول الخميس الماضي عبر إحدى حلقات التلفزيون: «إنّني أرسمُ الصليبَ على يدي، ومِـنْ رسم الصليب أحببتُ أن يُستخرجَ الدمُ وأنا أتبرعَ للمصابين…».
هل هناك مَـنْ يتلقّف هذه الظاهرة الرائعة، لنستمدّ من الحرب التي كرهناها خيراً لنا؟
يبدو أنّ الخُطى على طريق القدس طويلة، ما يستدعي ترميم هيكلية الدولة اللبنانية، لتتمكّن من مواكبة إرتدادات الأحداث ومعالجة سلبيّاتها، واحتواء انعكاساتها.
هل ننتظر أحداثاً مفجعةً أخرى، وشهداء آخرين، ومصابين ونازحين، ومزيداً من التفجيرات والإنهيارات والإعتداءات، حتى نلتقي جميعاً على طريق لبنان، وحول هذا الوطن الجريح لنتبرّع لـه برئيسٍ على الأقل، إنْ لم نتبرع لـهُ بالـدم؟