IMLebanon

حقوق الإنسان والارتهان لأولويات السياسة الدولية

منذ انعقاد المؤتمر العالمي لحقوق الإنسان في عام 1993 بفيينا عرفت قيم حقوق الإنسان حركية كونية مستمرة، وأصبحت عنصراً مركزياً في العلاقات الدولية، وتم اعتماد اتفاقيات جديدة ليتقوى بذلك القانون الدولي الإنساني، حيث عرف نظام الأمم المتحدة لحماية حقوق الإنسان تقوية وتجدداً ملحوظين: إحداث مجلس حقوق الإنسان، اعتماد آلية الاستعراض الدوري الشامل، تعيين تسعة وعشرين من أصحاب الولاية برسم الإجراءات الخاصة ودخول تسعة آليات دولية حيز النفاذ (اتفاقيتان دوليتان و 7 بروتوكولات إضافية). كما عرفت هيئات جهوية لتعزيز وحماية حقوق الإنسان النور منذ مؤتمر فيينا واستطاعت المؤسسات الوطنية لحقوق الإنسان، الحديثة النشأة في بعض البلدان، أن تتموضع كفاعل ديناميكي وأن تلعب أكثر فأكثر أدواراً مهمة. وفي الوقت نفسه برزت العديد من المنظمات غير الحكومية، الوطنية والإقليمية والدولية، وأصبحت أكثر تخصصاً ومهنية وفاعلاً لا محيد عنه لكونها تسهم في إسماع صوت المجتمعات وفي مسائلة الحكومات بشأن احترام التزاماتها الدولية.

وعرفت العشرون سنة الماضية أيضاً ظهور اشكاليات جديدة لم تكن معروفة قبل ذلك، تجسدت على الخصوص في تنوع وتعاظم أشكال معارضة كونية حقوق الإنسان وشموليتها.

وفي هذا السياق وفي عالم معولم ومتصل انعقدت الدورة الأولى للمنتدى العالمي لحقوق الإنسان بالبرازيل في ديسمبر 2013 بمشاركة ما يزيد عن 5000 مشاركة ومشارك من مختلف أنحاء العالم، للتأكيد على ضرورة إرساء فضاء عالمي تشاركي للحوار والتبادل بين فاعلين متعددين يعملون من أجل الاستجابة لطموحات الشعوب إلى احترام كرامتهم والمساواة والعدالة.

وفي إطار مواصلة هذه الدينامية، انعقدت الدورة الثانية لهذا المنتدى في نهاية تشرين الثاني/ نوفمبر 2014 بمدينة مراكش المغربية فيما ستتم استضافة الدورات المقبلة من قبل الأرجنتين وكولومبيا. وسيراً على منوال الدورة الأولى للمنتدى انتظم منتدى مراكش حول منتديات موضوعاتية تم إعدادها والسهر على فعالياتها من قبل شبكات الفاعلين بالمجتمع المدني والمؤسسات الوطنية والفرق الأكاديمية: حماية الأطفال ضد العنف، الحق في السكن اللائق، حرية التعبير، حقوق الشباب، البعد الأخلاقي في ثقافة حقوق الإنسان، من أجل تنمية مستدامة وعادلة، صحة العمال وحقوق الإنسان، الوقاية من الإبادة والجرائم ضد الإنسانية، تطور الآليات الدولية لحقوق الإنسان، أدوار الحركة الحقوقية العربية بعد « الربيع العربي «، الحماية القانونية للمهاجرين، الإبداع وحقوق الإنسان، العيش المشترك باختلافتنا. 

وفي الذكرى السادسة والستين للإعلان العالمي لحقوق الإنسان تكشف دراسة الوثائق الدولية المختلفة المتعلقة بحقوق الإنسان أنّ المفهوم الذي تحدده هذه الوثائق، التي حظيت بقبول واسع في المجتمع الدولي، هو مفهوم شامل ينطوي على ثلاث فئات من الحقوق، يتفق كل منها مع جيل معين من حقوق الإنسان ساهمت أقسام متباينة من البشرية في صياغته: أولاها، الحقوق السياسية والمدنية، وتتمثل في حقوق الحياة والحرية والكرامة الشخصية، البدنية والمعنوية، وضمان المحاكمة العادلة وحرية العقيدة والتعبير والتنظيم المهني والسياسي وانتخاب الحاكمين الخ. وثانيتها، الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، مثل حقوق العمل وفقاً لأجر عادل، والتعليم، والعلاج، والدخل المناسب. وثالثتها، ما يمكن تسميته بحقوق الشعوب أو الحقوق الجماعية، مثل حق تقرير المصير والسلام، والتنمية والبيئة، فضلاً عن استخدام اللغة الوطنية وصيانة الثقافة القومية.

ولكن، في الوقت الذي تتبلور فيه منظومة حقوق الإنسان فإنّ الواقع الملموس يكشف عن هوة واسعة بين هذا التبلور النظري وبين التحديات التي تواجه هذه الحقوق. فقد كانت المجموعة الدولية شاهدة خلال السنوات الأخيرة على حقيقة أنّ حماية كرامة الإنسان وحرمته الجسدية والمعنوية مرتهنة إلى حد بعيد لأولويات السياسة الدولية، وقد ظهر ذلك جلياً في التعامل مع أكبر كارثة إنسانية منذ الحرب العالمية الثانية تشهدها سورية. 

ومع اتساع دائرة التوظيف السياسي والبراغماتي لحقوق الإنسان في العلاقات الدولية، فإنّ هيئات المجتمع المدني العالمي التي أضحت عاملاً مؤثراً مهماً في المجتمع الدولي، والتي باتت تشتغل وفق نظام شبكات تضامنية، عالمية وإقليمية ووطنية، تنتصب متراساً أخيراً لكل المؤمنين بالقيم العليا للحرية والكرامة، وأملاً لضحايا الانتهاكات، وجواباً يبدد أجواء الشك والقلق حول مستقبل حقوق الإنسان في الألفية الثالثة.

ومما يؤكد أهمية حقوق الإنسان، في دول العالم العربي، أنّ التقارير السنوية للمنظمات الوطنية والإقليمية والدولية تعكس واقعاً مؤلماً للانتهاك النمطي لهذه الحقوق في معظم الأقطار العربية: انتهاكات الحق في الحياة، والموت من جراء التعذيب، وانتهاك الحق في الحرية والأمان الشخصي من خلال اعتقالات غير قانونية، وظاهرة المفقودين والمنفيين واللاجئين والنازحين. كما يعكس صورة متردية لمعاملة سجناء الرأي والضمير وغيرهم من المحتجزين، وغياب الحق في محاكمة عادلة، وانتهاك حريات الرأي والتعبير، والقيود التي يعانيها حق تكوين منظمات المجتمع المدني وحق المشاركة في إدارة الشؤون العامة.

ومن الإشكاليات التي تستوجب المعالجة الجدية بغية الممارسة الفعلية لحقوق الإنسان يمكن أن نذكر ثلاثاً:

– ما هي وسائل إدراج الأحكام التي تناولتها الاتفاقيات الدولية في النظام القانوني للأقطار العربية؟ 

– ما هي درجة القوة القانونية لنصوص الاتفاقيات الدولية في التسلسل الهرمي القانوني الداخلي للأقطار العربية، وإذا حصل تعارض بين التشريع الوطني النافذ وأحكام الاتفاقيات الدولية فأي نص أَولى بالتطبيق؟ 

-هل تجوز إثارة أحكام الاتفاقيات الدولية لحقوق الإنسان أمام القضاء الوطني لدى الدولة العربية المنضمة لهذه الاتفاقيات؟ وما هي الإشكاليات التطبيقية المتفرعة عنها؟

() باحث استشاري في «مركز الشرق للبحوث»