تتحكم في بلادنا صورة نمطية قاهرة تقوم على الاستثناءات الغير واقعية والغير عادلة، وان هناك مجموعات فوق المساءلة وفوق القانون، والدفاع عن النفس يعطيهم الحق باحتلال اراض الغير بالقوة واقتلاع الشعوب الامنة من بيوتها وتاريخها ومعتقداتها، واحداث اختلالات في المعايير الانسانية الفردية والجماعية، وشعوبنا تعيش في حالة من البؤس واللجوء والحرمان من ابسط الحقوق المدنية، انها ملحمة من المظالم عاشتها شعوب المنطقة على مدى عقود طوال، تحول فيها البشر في بلادنا الى فئران بيضاء في مختبرات الفشل والإدعاء الاقليمي والدولي.
التجارب المدمرة والفتاكة التي خبرتها شعوبنا جعلتها تحلم بساعات قليلة من وقف اطلاق النار وتحقيق السكينة الوجودية لدقائق معدودات يتذكر فيها الانسان انه انسان، والشعوب في منطقتنا في حالة من التيه والضياع بين اللجوء والنزوح والابادات الجماعية امام اعين العالم بعد ان اصبحت القاعدة هي النزاع والقتل والدمار، والاستثناءات تتمثل في الحصول على رغيف خبز او جرعة ماء حيث يحلم الانسان بعدم فقدان احد افراد اسرته من النساء والاطفال والرجال حيث تتراكم الجثث تحت الانقاض .
الانفصال عن الواقع اصبح هوية مميزة تجعل الكثير من النخب يلومون القتيل ويمتدحون القاتل، انها صورة نمطية عميقة في تاريخ الانهيارات البشرية منذ عشرات آلاف السنين، وهذا ما توافق العلماء على تسميته موت الحضارات حين تنعدم معايير الوجود البشري التي تجعل من الانسان غاية الغايات، كثيرة هي الذكريات المؤلمة والموجعة التي ارتكبتها البشرية في كل العصور والحقبات حتى كتابة هذه الكلمات.
الانسان في بلادي بات يخشى من تبني القيم الانسانية والوجودية والتي جعلت من الانسان كائن اجتماعي يؤمن بالشراكة والتلاقي والتكامل وبناء الامم والمجتمعات واحترام القيم الانسانية الضامنة لارادة التقدم والازدهار والامان، وكتابة صفحات بيضاء في تاريخ البشرية، وبلادنا كان لها ما لها من تلك الميزات الوجودية رغم كل الحروب والغزوات، وتشهد التجارب المدنية الحديثة لاجيالنا كيف ركبوا البحار وحملوا معهم احلامهم وطموحاتهم وابداعاتهم وارادتهم في العيش بسلام وامان، وكانوا شركاء في صناعة المدنية الحديثة قبل ان تواجههم لعنات العنصرية الحمقاء .
احبائي في لبنان وغزة والضفة والقدس ودمشق وحلب والسويداء وحوران وبغداد والموصل والبصرة والنجف وعدن والحديدة وصنعاء والخرطوم وبور سودان ودارفور وام درمان وبنغازي وطرابلس ووو، انها سنوات طوال ونحن في العراء نتقلب على مجامر شاشات العالم من مجزرة الى مجزرة ومن مجاعة الى سحق وتهجير واغتصاب، انها تفاصيل مؤلمة وموجعة وتحمل في طياتها كل العار والخيبة والضياع، انها لحظة انهيار وتشتت وضياع حيث يموت الاطفال جوعا وتتدفق الاسلحة بالمليارات، احبائي في لبنان وفي كل بيت فقيد نتيجة العنف والقهر والاستبداد وفي كل بيت ذاكرة سوداء تهجير او قصف او دمار، وفي ذاكرتنا جميعا تكمن الخيبة والادعاء لاننا نعرف كيف تحكم الجهل والعبودية والاستتباع بالقادة والنخب ووسائل الاعلام والعنصرية والطائفية بالمدارس والجامعات، احبائي في لبنان النموذج الذي كان إما ان نستعيد ما كان وإما رحمكم الله وعلى الدنيا السلام.